عام على رحيل الأستاذ محمد مهدي عاكف الذي ترك خلفه مدرسة تربوية عبر عنها في جميع مواقف حياته، وبعد مماته حيث أشعلت في نفوس الناس عامة والشباب خاصة جذوة حب هذا الدين والعمل له، بل والتضحية في سبيله.
مهدي عاكف الذي كان قد شارف على التسعين عاما وبالرغم من ذلك ظل نموذجا للتربية العملية التي تربى عليها خلال مسيرته الحياتية، ومع ذلك مات جلادوه وظل عاكف يكمل مسيرة العمل في دعوته ووسط الناس والشباب.
لقد تفرد مهدي عاكف عن أقران جيله بأنه ظل عاملاً مجاهداً متفاعلاً جندياً وقائداً ونموذجاً للثبات أمام المحن التي لا تحصى ولا تعد في مسيرة حياته، حيث خلف مواقف من عظمة شخصيته، ستظل الأجيال تتحاكى بها بل وتسجلها في صفحات التاريخ بمداد من ذهب لأنه نحسبه ولا نزكي على الله أحد كان واحداً من الذين قضوا نحبهم وحب دعوته يتملك كيانه.
عاكف جندياً
ما إن انخرط عاكف –وهو شاب في المدرسة الثانوية– لركب الدعاة رغم حياته الميسورة، إلا وقد تملكه حب الانطلاق والإبداع للوصول لقلوب الناس بدعوته التي ما أن عرفها حتى كان جندياً في الميدان يزود عنها ويعمل تحت لواء القادة.
لقد ضرب عاكف المثل العالي في الجندية حينما اختار عن طيب خاطر أن تكون فترة ولايته كمرشد فترة واحدة ويترك المجال لجيل آخر يحمل ويقود مسيرة هذه الدعوة.
لم يركن عاكف لكبر سنة أو للأمراض التي حلت به، لكن قال كلمته التي دونها التاريخ حينما تم اختيار مرشد جديد، وأثناء تسليمه راية القيادة للمرشد الجديد قال له، كما جاء في مذكراته: “كنت أول من نادى د. محمد بديع بفضيلة المرشد العام، وأثناء خروجي من المكتب ناديته، وقلت: يا فضيلة المرشد.. أنا رهن إشارتك في وقت تحتاجني الدعوة فيه”.
ليس من السهولة على النفس أن تلزم نفسها رهن القيادة الجديدة إلا النماذج التي تجردت لله رب العالمين.
عاكف ثابتاً
ضرب مهدي عاكف النموذج الحي والعملي للثبات على المواقف، فبعدما ساءت العلاقة بين الإخوان وعبدالناصر حتى تم اعتقال عاكف وتم تعذيبه بصورة وحشية جعلته يذكر أن الذي كان يطعمه خلسة أحد اليهود المحبوسين لما رأى من شدة التعذيب عليه، ومع ذلك ورغم اعتقاله قبل حادث المنشية عام 1954م بشهور فإن عبدالناصر زج به في المحاكمات التي حكمت عليه بالإعدام شنقاً، حيث يصف موقف الإعدام بقوله: ذهبوا بنا إلى حجرة الإعدام، ولم يكن بها شيء، حتى الجوارب أخذوها، وأخذوا كل ملابسي حتى المناديل، ولم يكن مسموحًا لنا بشيء، وسرعان ما أعدموا الستة الأوائل رحمة الله عليهم، وكنت أنا السابع، وجاءني مدير البوليس الحربي، وكان اسمه أحمد أنور، فحدثته بشدة، وعدم اكتراث؛ لأنه فعل بي الكثير بالإضافة إلى أنني سأُعدم فلماذا أخاف! وماذا سيفعلون بي بعد ذلك…”، لكن شاء الله ألا ينفذ الحكم لتفاصيل ليس هنا مكان سردها.
وبهذه الروح عاش عاكف، ومع ذلك ظل عاكف ثابتاً على دعوته يعمل لها وقد مات كل هؤلاء، حتى في أواخر حياته ظل ثابتاً حتى توفاه الله في السجون لم يلن ولم يطلب من أحد العفو.
عاكف مجاهداً
لم يترجم مهدي عاكف شعار “والجهاد سبيلنا” ترجمة قولية أو إعلامية، لكنه حققها في نفسه ترجمة فعلية؛ حيث كان مجاهداً في ساحات الوغى يزود عن وطنه ضد المحتلين، فقد وكل له مهمة جمع السلاح من الصحراء الغربية وصحاري مصر أثناء حرب فلسطين، والدفع بها للهيئة العليا للدفاع عن فلسطين، حيث كانوا يزودون بها متطوعي الإخوان هناك.
بل حمل راية الجهاد على عاتقه وسط جامعة القائد إبراهيم (عين شمس حالياً)، وجمع الطلاب وفي ساحة الجامعة –وبعد استئذان رؤسائها– افتتح معسكراً لتدريب المجاهدين في حرب القنال عام 1951م وكانت له صولات وجولات وسط جامعة القاهرة وجامعة عين شمس، وخرج الكثير من المجاهدين الذين أبلوا بلاء حسناً على أرض المعركة ومنهم من استشهد في سبيل وطنه.
عاكف قيادياً
وهب الله عاكف العديد من الصفات القيادية منذ أن كان طالباً، ومنها الجرأة في الحق واللين لكل من يعمل لهذا الدين والانفتاح وغيرها، فبالرغم من كونه شارف على التسعين فإن الجميع كان يرى فيه روح الشباب، وحكمة القائد، وصبر الجندي، والأخوة الصادقة.
وبهذه الصفات تملك مهدي عاكف قلب من يعرفه، سواء في سجن الواحات أو سجن المحاريق، أو فترة عمله في الخارج خاصة المركز الإسلامي بميونيخ، أو نائباً في البرلمان، أو مرشداً لأكبر حركة إسلامية.
استطاع بريادته للعمل الإسلامي والتربوي أن يقدم نموذجاً حياً للمربي والداعية في كل الميادين، ولذلك له علاقات طيبة بمعظم الدعاة والمربين وقادة العمل الإسلامي في العالم.
ومن المعروف عنه دعمه الشديد للقضية الفلسطينية والمقاومة في لبنان ضد الاحتلال الصهيوني، والوقوف بجوار كل مسلم على وجه الأرض والعمل من أجل الإنسانية كلها.
عاكف متجرداً
لم يسع مهدي عاكف للزعامة في يوم من الأيام بل كان يعمل وخلال العمل تسند له المهام، حيث كان يتجرد بهذه الأعمال لله رب العالمين، لم ينتظر ثناء ولا مدحاً من أحد، بل كان يقول: إن ظاهرةَ التنازع والشقاق والتشرذم التي تصيب بعض العاملين في حقل الدعوة تشير إلى نقص في التجرد الحقيقي لله، حين تختلف آراؤُنا واجتهاداتُنا ورؤانا ونحن متجردون لله وللحق، فسنحتكم إلى الضوابط والثوابت التي ارتضيناها، وسيقلُّ التنازعُ والشقاقُ والتشرذم دون شك حين نكون متجردين لله، نقبل النصيحة، ونحتمل النقد، سواء كان لأشخاصنا أو لأفكارنا أو لتصرفاتنا، وحين نكون متجردين لله لا تكون ذواتنا محور اهتمامنا ولا محور تحركنا، وحين نكون متجردين لله تكون طريقة الحكم على الآخرين هي الطريقة التي أمر الله بها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8).
لقد سعى مهدي عاكف على درب نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يعبأ بالحياة ومتعها حيث كانت الآخرة نصب عينه حتى قال: “من أراد الجنة فلا يرى لنفسه حقاً على أحد.. ولا ينقص من أقدارنا أن يهاجمنا بعض الناس، ويتهموننا بالباطل، ولكن الذي ينقص من أقدارنا هو أن نخطئ نحن..”.
رحل مهدي عاكف ولم يشيعه أحد، ولم يقف على قبره أحد، مات وقد دفن في جوف الليل، بعدما رسم بمواقفه طريقاً من نور يسير عليه كل من أراد أن يعمل لدين الله متجرداً.