نتناول هنا منظور التوحيد للمعرفة, وكيف يمثل التوحيد ذاته منطلقًا رئيسيًا لبناء النظام المعرفي في المنظور الحضاري التوحيدي, وتنطلق هذه المقولة من مسلمة إيمانية ومعرفية وهي: أن الإيمان ليس مجرد مقولة أخلاقية، بل هو في الحقيقة وفي المقام الأول مقولة معرفية. وبتعبير آخر الإيمان مفهوم مرتبط بالمعرفة وبصحة الأخبار التي يتأسس عليها. ولما كانت طبيعة محتواه الخبري مماثلة لطبيعة المبدأ الأول للمنطق والمعرفة ولما وراء الطبيعة والأخلاق والجماليات، فإن فعله في المتعرض له يشبه فعل النور الذي يضئ له كل شيء.
الإيمان والمعرفة
الإيمان – كما وصفه أبو حامد الغزالي – كشف يضع كل ما عداه من المعطيات والحقائق في الوضع المناسب والمطلوب لفهمها على الوجه الصحيح. فالإيمان هو أساس التفسير العقلاني للوجود. وهو المبدأ الأول للعقل، ولا يمكن أن يكون غير منطقي أو لا عقلاني، وإلا كان متناقضًا مع نفسه. فالإيمان هو – بحق – المبدأ الأول للعقلانية. ومن شأن إنكاره أو معارضته الانحطاط عن مستوى صوابية التفكير، ومن ثم عن مستوى الإنسانية.
ولباب التوحيد بوصفه مبدأ المعرفة، هو الإقرار بأن الله تعالى هو الحق، وأنه واحد أحد لا شريك له. ويستبطن هذا الإقرار وجوب رد البت في كل خلاف وفي كل شك، إليه سبحانه وتعالى، وبأنه لا دعوى تستعصي على المعايرة والبت القاطع فيها. فالتوحيد إقرار بأن الحقيقة قابلة لأن تعرف، وأن بوسع الإنسان أن يصل إليها.
البحث عن الحقيقة
إن النزعة الشكوكية المنكرة للحقيقة هي نقيض التوحيد. ومنبعها هو التقاعس عن متابعة البحث عن الحقيقة إلى منتهاه، والتسليم المتعجل بعدم إمكانية معرفة الحقيقة. وهذه الشكوكية، بوصفها مبدأ معرفيًا، داعية إلى اليأس، ومبنية على افتراض مسبق مفاده أن الإنسان يعيش في حلم أبدي لا يمكن في ظله أبداً تمييز الحق من الباطل، وغير قابلة للانفصال عن العدمية ونفي القيم. ذلك أن إدراك القيم يقتضي التسليم بإمكانية توصل الإنسان لحقيقتها. ولا مجال للتثبت في صحة أية دعوى قيمية دون الإجابة على تساؤلات من قبيل : هل ما يدعى أنه قيمة هو قيمة بحق؟ هل تلك القيمة متحققة أو منتهكة في حالة بعينها؟ وهل تلك الحالة المعينة موصوفة على ما هي عليه في واقعها الحقيقي؟ وما لم يكن بالإمكان التوصل إلى إجابات يقينية على تلك الأسئلة، بمعنى معرفة حقيقتها، فإن معرفة القيمة تنهار. فقيمة القيمة، واستحضارها في موقف بعينه، قد يكونان محلاً للشك شأن أي معطيات أخرى. ومن هنا فإنه ما لم يبدأ المرء بافتراض مضاد للشكوكية، أي بافتراض إمكانية التوصل إلى الحقيقة برغم تلك الملابسات، فإن العدمية تصير أمرًا حتميًا.
المبادئ المعرفية للتوحيد
يتشكل التوحيد بوصفه مبدأ منهجيًا من ثلاثة مبادئ معرفية: أولها: رفض كل ما لا يتمشى مع الحقيقة. والثاني: نفي التناقضات النهائية. والثالث: الانفتاح على الدليل الجديد، وعلى دليل المخالفة.
كما ينفي المبدأ الأول الزيف والخداع عن الإسلام، حيث إنه يضع كل شيء في الدين في متناول التمحيص والنقد. فيكفي في منظور الإسلام ثبوت مغايرة موضوع ما للحقيقة الواقعة، أو إخفاقه في التوافق معها، للقول بببطلانه، سواء كان قانونًا أو مبدأ أخلاقيًا أو شخصيًا أم اجتماعيًا، أم خبرًا يتعلق بالوجود.
يحمي هذا المبدأ المسلم من القول بالهوى، أي من إطلاق دعوى المعرفة بلا دليل ولا تمحيص. ويعلن القرآن أن الدعوى غير المؤسسة على بينة وتثبت هي مجرد ظن يأمرنا الله تعالى باجتنابه. يقول الله تعالى: )اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ( [الحجرات: 12].
في ضوء ذلك يمكن تعريف المسلم بأنه: الشخص الذي لا يقول إلا الحق، ولا يمثل إلا الحق، حتى لو عرضه ذلك للخطر. فالنفاق وتلبيس الحق بالباطل ووضع المرء القيمة الأخلاقية في مرتبة أدنى في مصلحته الخاصة، أو من مصلحة عشيرته، أمر بغيض في منظور الإسلام، وجدير بالازدراء.
أما المبدأ الثاني الخاص بنفي التناقض المطلق، فيحمي المرء من التناقض البسيط من جهة، ومن التناقض الظاهري من جهة أخرى. وهذا المبدأ هو جوهر العقلانية. ولا مهرب بدونه من الوقوع في النزعة الشكوكية. ذلك أن مقولة التناقض النهائي تعني وجود نقيضين يستحيل معرفة حقيقة أي منهما. ومن المقطوع به أن التناقض يحدث في تفكير البشر وفي خطابتهم. والسؤال المطروح من ثم هو : هل يمكن تجنب التناقض؟ وهل يمكن تلمس مخرج منه حالة حدوثه؟ الموقف الإسلامي من هذه المسألة هو الجزم بوجود مخرج من التناقض، بمبدأ آخر أو حقيقة أخرى تنضوي تحتها تلك المتناقضات على نحو يزيل ما بينها من تناقض، ويؤلف بين فروقها.
ويصدق هذا المنطق ذاته بخصوص ما قد يبدو من تناقض بين العقل والوحي. فالإسلام لا ينفي وجود إمكانية منطقية لحدوث مثل هذا التناقض فحسب، بل يزود البشرية في المبدأ الثاني الذي نحن بصدد بيانه، بدليل إرشادي ليخرج منه حالة حدوثه في الفهم الإنساني. ولا محل هنا لطغيان العقل ولا الوحي على الآخر في إزالة التناقض المتصور. ذلك أنه لو جعلت الأولوية للوحي، فلن يكون لدينا مبدأ نفرق به بين وحي ووحي آخر، أو بين دعوتي وحي واحد. وستستعصى التناقضات البسيطة والتباينات، أو أوجه التعارض الظاهرية بين النص الحرفي لأي بيانين أو موقفين يدعي أنهما موحي بهما، على الحل في مثل هذه الحالة. ولن نجد وحيا يرغب في حرمان نفسه من وسيلة يحقق بها انسجامه مع نفسه، وتحقيق التناغم في كامل بنيته.
الوحي والعقل
من جهة أخرى، قد يتعارض الوحي مع العقل، أي مع نتائج التمحيص العقلي والإدراك المعرفي العقلاني. وفي مثل هذه الحالة يعلن الإسلام أن التعارض ليس نهائيًا، ويوجه الفاحص إلى واحد من ثلاثة خيارات: مراجعة فهمه للوحي، أو مراجعة النتائج العقلية التي توصل إليها، أو القيام بهاتين العمليتين معًا. فالتوحيد بوصفه مبدأ لوحدة الحق ينفي اعتبار التعارض نهائيًا، ويطالبنا بالتفكر مرة أخرى في المقولات التي تبدو متعارضة، منطلقًا من التسليم بحتمية وجود بعد لم يضعه الفاحص في اعتباره، وإذا وضعه في اعتباره سيزول التعارض المتصور.
وبالمثل، يدعو من يتصور وجود تناقض، إلى إعادة قراءة الوحي، وليس لمراجعة الوحي نفسه مرة أخرى، تحسبا لإمكانية أن يكون قد فاته في قراءته السالفة إدراك معنى خفي أو غير ظاهر، لو كان قد تنبه إليه لزال ما توهمه من تعارض ظاهري. ومثل هذه الإحالة إلى العقل أو الفهم لا تتعلق من قريب أو بعيد بتحقيق انسجام الوحي ذاته، بل بتحقيق انسجام تفسيرنا أو فهمنا البشري له. فالوحي أسمى من أن يعبث به الإنسان. كل ما في الأمر أن تلك المراجعة تجعل فهمنا للوحي متمشيًا مع الدليل المتراكم الذي كشف عنه العقل. ومن جهة أخرى، فإن التسليم بأن التعارض أو التناقض الظاهري نهائي، أمر لا يستسيغه إلا ضعاف العقول. وعلامة عقلانية المسلم أنه يصر على وحدة مصدري الحقيقة : الوحي والعقل.
أما المبدأ الثالث للتوحيد من حيث وحدة الحق، فهو الانفتاح على الدليل الجديد، أو على دليل المخالفة، أو عليهما معًا، فهو يحمي المسلم من الليبرالية والتعصب والنزعة المحافظة المفضية إلى الركود. ويتجه هذا المبدأ بالمسلم صوب التواضع الفكري. ويفرض عليه أن يذيل تأكيداته ونفيه بعبارة: الله أعلم؛ لأنه على قناعة بأن الحقيقة أكبر من أن يحيط هو بكل جوانبها على الدوام. فالله تعالى يقول: )وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ([الأنعام:80]، ويقول جل شأنه: )وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ( [الطلاق: 12].
وحدة مصادر الحقيقة
التوحيد بتأكيده على وحدانية الله تعالى المطلقة، يؤكد على وحدة مصادر الحقيقة. فالله تعالى هو خالق الطبيعة التي يستقي الإنسان معرفته منها.
من ناحية أخرى فإن موضوع المعرفة هو الآيات والسنن الربانية المبثوثة في الطبيعة التي هي من صنع الله. ومن بين الشواهد القرآنية على ذلك، قول الله تعالى:) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ( [الذاريات : 20]، و [يونس : 5- 6].
إن الله تعالى في المنظور الإسلامي ليس بالمخادع ولا الحاقد الراغب في تضليل الإنسان، ولا هو بالذي يغير حكمه على شاكلة ما يفعل البشر حين يصححون معرفتهم أو رغبتهم أو قرارهم. فالله تعالى مطلق الكمال والقدرة والمعرفة، هو ذو الجلال والإكرام، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وتعالى الله عن أن يخطئ. وعند غياب أي من تلك الصفات لا يكون الحديث عن الإله الواحد الأحد المطلق المتعالي المفارق في الإسلام.
التسامح المعرفي
أما عن مفهوم التسامح، بوصفه مبدأ منهجيًا متضمنًا في جوهر التوحيد، فيعني أن الله تعالى لم يدع أمة من الأمم إلا وبعث فيها رسولًا من أنفسهم، ليعلمهم أنه لا إله إلا الله، ويدعوهم إلى عبادته وتوقيره. يقول الله تعالى: )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ( [الذاريات: 56]، ويحذرهم من الشر ودواعيه. يقول الله تعالى: )فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ([النحل: 36].
ويعني التسامح في هذا المضمار، اليقين بأن الله تعالى قد وهب البشر جميعًا فطرة سليمة تمكنهم من معرفة الدين الحق، وإدراك المشيئة الإلهية والتعاليم الربانية. وهو أيضاً إقرار بأن مرد تعدد الأديان هو التاريخ بكل عوامله المؤثرة، أحواله المكانية والزمانية المتنوعة، وبكل ما به من تحيزات وعواطف ومصالح مكتسبة. ووراء هذا التنوع الديني يقف الدين الحنيف الممثل لفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها، والتي عليها يولد كل مولود، قبل أن يؤدي التثاقف به إلى إتباع دين أو آخر. وفي ذلك المقام نقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم : “بُعثت بالحنيفية السمحاء أو على ملة إبراهيم”.
ويتطلب التسامح من المسلم دراسة تاريخ الأديان ابتغاء تحقيق مستهدفين، أولهما: اكتشاف ما بها من حنيفية الفطرة الأصلية التي أرسل الله تعالى رسله في كل زمان ومكان لبيانها للناس. يقول الله تعالى 🙂 فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ( [الروم: 30]. وثانيهما: التأكيد على الدين الحنيف وجذب الناس إليه بأصح الحجج وأنسها. يقول الله تعالى: )ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( [النحل : 125].
وفي منظور الدين يأتي مبدأ التسامح في موقع الصدارة، بلا منازع، من حيث أهميته وأولويته في العلاقات الإنسانية، ليقوم بتحويل المواجهة والإدانة المتبادلة بين الأديان إلى بحث علمي رصين في نشأتها وتطورها، بهدف تمييز المكون الأصلي المنزل من عند الله فيها، عما لحق بها من إضافات تاريخية.
وعلى صعيد البعد الأخلاقي للتسامح، الذي هو مجاله الثاني البالغ الأهمية، يحصن اليسر المسلم ضد كافة التوجهات النافية للحياة، ويكفل له القدر الأدنى من التفاؤل المطلوب للاحتفاظ بحاسة الاتساق والصحة والتوازن، مهما صادف من محن ومصائب في واقع الحياة الإنسانية على الأرض. فلقد بين الله لنا: )فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا( [الشرح: 5 -6].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ أصول التربية المساعد – جامعة دمياط- مصر.