كانت خطة الرئيس الأرجنتيني فيديلا الذي قام بانقلاب عسكري عام 1976 في الهروب من الغضب الشعبي المتنامي ضده أوائل الثمانينيات هي دخوله في حرب “غير مدروسة” مع بريطانيا فيما عرفت بحرب “فوكولاند”، فلم تفلح خطة فيديلا، وخسر فيها خسارة مهينة، واضطر الجيش الأرجنتيني للإطاحة به.
وعقب إعلان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي نيته التدخل العلني في ليبيا عسكرياً برغم أن الأولوية هي لمخاطر سد النهضة وتفشي وباء كورونا في مصر وانهيار المنظومة الصحية، أعاد محللون طرح “نموذج فيديلا”، والسؤال: هل هناك احتمالات أن يكون السيسي يكرر نموذج فيديلا بليبيا، للهروب إلى الأمام من الوضع الداخلي المتأزم، ومن أزمة سد النهضة التي تسبب توقيعه اتفاق الخرطوم عام 2015م في تنازل مصر عن حقوقها التاريخية وحصتها في مياه النيل.
فرغم أن مياه النيل مهددة بشكل جدي بسبب سد النهضة، وتشكل تهديداً وجودياً لمصر “هبة النيل”، فقد أكد السيسي أنه سيتعامل معها بالطرق الدبلوماسية “حتى النهاية”، بينما في حالة ليبيا غير الملحة، التي تتصل فقط بحسابات تتعلق بالعداء للتيار الإسلامي المشارك في حكم ليبيا عبر حكومة الوفاق، وحسابات إقليمية متعلقة بسعي دول الثورة المضادة للقضاء على ما تبقى من “الربيع العربي”، فقد أعلن تدخله العسكري علناً الذي كان بمثابة إعلان حرب صريح على حكومة الوفاق وتركيا، وبانتظار دعوة برلمان طبرق لتحويله واقعاً، ساكبا ًالمزيد من الزيت على نار الأزمة الليبية.
ماذا يعني خطاب السيسي؟
كانت أخطر ثلاث نقاط في خطاب السيسي هي قوله: إن “سرت والجفرة خط أحمر، وسوف نتدخل عسكرياً إذا تم تجاوزهما”، وتهديده بوضوح وعلناً بتسليح المزيد من مؤيدي الانقلابي حفتر ممن أسماهم “أبناء القبائل” وتدريبهم من أجل خوض الحرب ضد حكومة الوفاق الوطني، رغم أنها الحكومة المعترف بها دولياً.
وكذا حديثه عن أن “صبرنا نفد وجاهزون للتدخل المباشر في ليبيا”، وذلك بعدما ساندت تركيا حكومة الوفاق عسكرياً لتحرير أراضي ليبيا من قوات الانقلابي خليفه حفتر، وأوصلتها إلى سرت والجفرة، التي لو سيطرت عليها حكومة الوفاق فسوف تدخل شرق ليبيا حيث مقر حفتر وما يعتبره السيسي “خطوطاً حمراء” لأمن مصر القومي.
لذلك فدلالات خطاب السيسي تتمثل في تأكيده أن حدود مصر مع ليبيا ليست طبرق المتاخمة، وإنما مدينة سرت التي تقع على بعد 450 كيلومتراً من العاصمة طرابلس، و940 كيلومتراً من حدود مصر! وتجاوز قوات الوفاق المدعومة تركياً لها “خط أحمر”.
من دلالات الخطاب أيضاً أنه يدعم ويؤيد تقسيم ليبيا إلى دولتين، واحدة في الشرق يدعمها هو ودول إقليمية وأجنبية، وأخرى في الغرب والجنوب تابعة لحكومة الوفاق، بدليل مطالبته الطرفين المتحاربين بالوقوف حيث انتهت آخر معاركهما.
السيسي أيضاً أراد بخطابه إرسال رسائل سياسية وحربية لتركيا أن تدخلها يقترب من الفناء الخلفي لمصر في شرق ليبيا، وهذا معناه تهديد النظام نفسه.
السيناريو القادم في ليبيا
يمكن توقع السيناريو القادم في ليبيا على النحو التالي:
أن تبدأ القوى الموالية للانقلابي حفتر في تفويض السيسي للتدخل العسكري المصري في ليبيا خاصة برلمان طبرق الذي يسيطر عليه عقيلة صالح، الذي زعم السيسي أنه هو الهيئة الوحيدة المنتخبة والممثلة لشعب ليبيا، برغم أن خليفة حفتر حل هذا البرلمان عملياً حين نصَّب نفسه، الشهر الماضي، حاكماً عسكرياً على ليبيا، وأعلن حل المؤسسات التي أنشئت بناء على اتفاق الصخيرات وأبرزها هذا البرلمان!
أن يزور مصرَ وفدٌ من جيش حفتر وبرلمان صالح من أجل توقيع اتفاقية للتعاون العسكري والإستراتيجي بين عقيلة صالح، والسيسي، تسمح بتدخل مصر عسكرياً على غرار اتفاق حكومة الوفاق مع تركيا، الأمر الذي يشكل توريطاً عسكرياً لمصر هو الثالث منذ حرب اليمن وغزو الكويت.
سيبدأ سلاح الجو المصري علناً هذه المرة وليس سراً، بتقديم دعم لمليشيات وقوات حفتر والقبائل لتثبيت حدود سرت – الجفرة، ومنع أي تقدم للوفاق باتجاه الشرق، علماً أنه ليس معروفاً هل سيقبل السيسي بسيطرة الوفاق لسرت والجفرة واعتبارهما هما الخط الأحمر، ولكن دون التقدم لما بعدهما، أم سيقوم بضرب قوات الوفاق التي تستعد لتحرير سرت وحشدت حشودها بالفعل في مواجهة حشود حفتر والمرتزقة الروس؟
سيقوم الإعلام المصري بدق طبول الحرب ومحاولة إقناع الشعب المصري أن ليبيا أخطر من “سد النهضة”، وأن تهديد السيسي موجه أيضاً لإثيوبيا، بينما الهدف هو صرف الأنظار عن بدء إثيوبيا ملء سد النهضة أو إبرام السيسي اتفاقاً للملء الجزئي للسد مع استمرار التفاوض.
هل هي معركة مع التيار الإسلامي و”الربيع العربي”؟
يمكن القول: إن ما فعله النظام المصري يندرج في سياق الحملة التي بدأتها دول الثورة المضادة على ما تبقى من “الربيع العربي” خصوصاً في ليبيا، ويمكن في هذا الصدد توضيح النقاط التالية:
معركة النظام المصري الأساسية هي مع التيار الإسلامي، أو ما يطلق عليه إعلامياً “الإسلام السياسي”، وهي أهم بكثير من معركة الدفاع عن شريان الحياة في مصر (مياه النيل)، وهذا ما يفسر تشنّجه وتوتره فيما يخص ليبيا؛ لأن بها تيارات إسلامية تشارك في حكومة وجيش الوفاق، خاصة الإخوان المسلمين، ممثلين في رئيس المجلس الرئاسي خالد المشري وحزب العدالة والبناء، الذي أعلن رئيسه محمد صوان عبر صفحته على “فيسبوك” رفضه تصريحات السيسي، حول ليبيا، واعتبرها “تعدياً وتدخلاً سافراً”، وقال: إنه يريد صرف الأنظار عن مشكلاته الداخلية.
النظام ربما يلجأ إلى أقدم سلاح تعتيمي، عبر تضخيم أزمة خارجية لإبعاد الأنظار المحلية عن كارثة وطنية وخاصة فشل ذريع للدولة في إدارة أزمة كورونا واستفحالها، وزيادة الاقتراض بصورة كارثية وانهيار الاقتصاد.
رغم كل المشكلات والتهديدات الخارجية التي تواجه مصر حالياً، يظل أصل المشكلة داخلياً متمثلاً في وجود نظام يحكم ويسيطر ويعتقل ويشرّد دون رادع أو وازع، لذلك كان لافتاً أنه قال لضباطه وجنوده: أن يستعدوا لعمل داخل أو خارج مصر، أي حدد أدواراً للجيش داخل مصر يصعب تصورها سوى أنها قمع أي معارضة للنظام كما يحدث فعلياً منذ انقلاب 3 يوليو 2013م.
خطورة تهديد السيسي الصريح بالتدخل في ليبيا أنه يبدو في الواقع “رسالة طمأنة مباشرة” لإثيوبيا أنه بإمكانها مواصلة بناء سد النهضة وتهديد أمن مصر القومي دون أن يكون هناك رد فعل مصري، وهو ما يثير السؤال حول هدف الخطاب؛ هل هو فقط ما يحدث في ليبيا، أم أنه محاولة لصرف الأزمات العديدة التي يتعرض لها النظام داخلياً وخارجياً؟
التدخل العسكري المصري الكبير في ليبيا ليس أمراً سهلاً، فالولايات المتحدة تبدو داعمة لموقف تركيا، ودخول مصر ضمن التحالف الروسي الداعم لحفتر سيجعلها في موقف معارض لأمريكا، كما أن تركيا لن تتراجع بسهولة، فقد ظلت ثابتة في سورية ضد روسيا نفسها، وهذا يعني أن ما يحدث في ليبيا صراع دولي وإقليمي من الصعب أن ينتصر فيه طرف على طرف.
لا يوجد أي غطاء شرعي حقيقي لمصر للتدخل، ولا وجود أساساً لموافقة دولية؛ إذ تظل الوفاق هي الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، وأي تدخل مصري هو بمثابة احتلال، وبرلمان طبرق الذي يعتبره السيسي مبرراً شرعياً لتدخله لا قيمة له فعلياً، ثم إن حفتر قام بحله.
أي مواجهة داخل ليبيا بين الجيشين التركي والمصري ستكون بلا شك اعتداء على عضو بحلف “الناتو”، ومصر لا تستطيع المغامرة بمواجهة الجيش التركي الأكثر قوة وجاهزية وعضواً بحلف “الناتو” ومن حقه طلب الدعم العسكري منه.
لذلك، يرى محللون أن تصريحات الرئيس المصري السيسي هي رسالة موجهه للجيش المصري وللداخل بإنجاز وصمود وهمي ضد تركيا في ليبيا، لتخفيف نتائج الملفات المتراكمة والفشل في أزمة تفشي كورونا وسد النهضة وهزائم حفتر.