الأستاذ محمد مهدي عاكف الذي ولد في أجا دقهلية عام 1928م وأصبح صاحب المعادلات الصعبة في جماعة الإخوان منذ أن التحق بهذه الجماعة، حيث كان حديث الساعة في كل عصر من العصور، لما امتلكه من صفات الشجاعة والقوة في الحق، حتى صار نزيل جميع المعتقلات حتى وفاته فيها في 22 سبتمبر 2017م.
أظهر عاكف في هذه القصة جانب الأديب رقيق المشاعر جياش العاطفة نحو أمه التي كانت لها السند.
وفي هذه الرواية القصيرة التي سطرها في مذكراته استخدم العنصر الواقعي ممزوجاً بعنصر التشويق الروائي في تصوير أول لقاء له مع أمه في العيد بعد 15 عام سجن دون أن يراها، وعلى الرغم من كونه كان مسؤولاً عن السجن وله شخصيته، فإنه لم يستطع من خلال هذه الكلمات أن يخفي طفولته وشوقه لمصدر حنانه الأول وهي أمه، فيقول:
مرت علينا السنون تلو السنين، والعيد تلو العيد، ولم أر والدتي لمدة 15 عامًا داخل السجن، حتى جاء العيد.
حقًا إن العيد في الغد! وإن هذه الليلة هي ليلة العيد! يا الله! ما أجملها من ليلة.. ظلام حالك رهيب.. وزنزانة قذرة ضيقة، وأصوات الحرس الخشنة، وسعال المساجين المستمر، وأصوات الحشرات والهوام وهي تدب وتزحف، ومع ذلك كله فالغد هو العيد!
شرد ذهني بعيدًا، وتخطيت جدران الزنزانة السميك، واخترقت بذهني الأسوار والحراس، وشردت بعيدًا مع ليلة العيد، إنها ليلة ليست محسوبة من الأيام؛ فهي طيف جميل، وحلم بديع، فيها تضمك الدنيا بأكملها، ويتعطر الجو، وتتزين الحياة، ولكنها هنا في السجن طويلة، كالحة، حزينة، ساهمة.
وحاولت النوم فلم أستطع، وتقلبت على فراشي الوثير الذي يتكون من “برش” ليف فوق الأسفلت الجيد، ورطوبة الأرض برائحتها العفنة تعطر الجو، لم أنم هذه الليلة قط، وكيف أنام وأنا أعلم أنني قد تركت أسرتي، أمي وإخوتي، تركتهم جميعًا؛ لأنني آثرت وطني وديني عليهم، فكان نصيبي السجن، ونصيبهم الحزن والألم المرير.. كيف يقضي هؤلاء المساكين العيد.. أمي الحبيبة وأخوتي الأعزاء، وأصدقائي الأوفياء؟ لا بد أنكم تتألمون مثلي هذه الليلة، لا بد أنكم تعيشون هذه اللحظات معي كما أعيش معهم.
إن الوفاء جميل، وإن الإنسان الذي يملك حب هذه القلوب جميعًا -قلب الأم والإخوة والأصدقاء حقًا- هو السعيد حتى لو كان في السجن.. وابتسمت ابتسامة عذبة، وغطيت وجهي، وتسرب النوم رويدًا رويدًا إلى عيني، فأسلمت نفسي للنوم في هذه الليلة.
ونمت، ولكن روحي حلقت هناك عند الأحبة، سعيدة هانئة، ولكن تلك السعادة لم تكد تبدأ لتنتهي؛ فقد استيقظت من نومي فرأيت الجدران ما زالت قاسية صلبة، والرائحة العفنة تتصاعد، والحشرات تسعى، والظلام الكئيب ينتشر، لكنى كل أمل أن يأتي العيد لأقابل الأحبة الذين سيأتون لزيارتي، ستأتي أمي الحبيبة وأشقائي.
أشرقت الشمس، وأشرقت معها نفوس متلهفة، ووجوه المساجين المساكين، وأخذوا يهنئون بعضهم بعضًا بالعيد.. حقًا إن البشر يكسو وجوههم الفرح، ولكن الصدور تحمل ما تحمل من ألم دفين.
وجاء وقت الزيارة؛ فالزيارة مباحة للجميع في يوم العيد، وحدث هرج شديد، وانطلقت ضحكات صاخبة، وتبادل المساجين التهاني، ووزع البعض كعك العيد من السجن وهو خبز أسود معجون بقليل من الزيت، ونادوا أسماء المساجين ممن لهم زيارات، وأرهفت السمع، ولكن لم أكن بين الأسماء في البداية، وعلا وجهي الوجوم.. إنه أول عيد التقي فيه أهلي بعد خمسة عشرة عامًا، ترى ماذا أصابهم؟ ليتني أستطع أن أفديهم بحياتي، ولكنها القيود، قيود الظلم التي تكبلني.
ترى ما الذي أخرهم؟! إنني لفي شوق شديد لرؤياهم، وانتبهت فإذا اسمي يُنادى عليه بالزيارة، فانطلقت سريعًا لأزور أعز الناس عليّ في الوجود، وانتظرت أمام شباك كئيب مغطى بالأسلاك الضيقة، والحديد الغليظ.. ألا تبًا لتلك القضبان.. وددت انتزاعها لأستطيع رؤية الأحبة.. ودوى صوت هادئ، إنه صوت الزائرين وقد انطلقوا يتسابقون.. عشرات الرجال النساء والأطفال، كل منهم ينادي بأعلى صوته عن أخيه أو ابنه أو قرين.. أصوات عجيبة مختلطة، ولكنها رائعة النغم؛ لأنها تعبر عن الشوق والحب واللهفة والحنان.. ابني.. ولدي.. أخي.. أبي.. عمي.. خالي.. كل هذه الصلات تتردد في وقت واحد، من الطفل الحائر الصغير، ومن المرأة العجوز البائسة، ومن الأب العطوف، ومن الأم الرؤوم.. أصوات هادئة، ولكنها كنغم القيثار، وكصوت البلابل، وكغناء الكروان، وسمعت صوتًا خافتًا ينادي باسمي، فتلفت حولي، ونظرت هنا وهناك، فرأيت أمي الحبيبة بوجهها الملائكي الصغير.. أُماه.. انطلقت من فمي كصرخة مستغيث.. فسمعتها الأم، ولكن الأسلاك القاسية، والقضبان الغليظة حالت بيني وبين أحضانها، فدمعت عيناها، وأخذت تبكي بكاءً صامتًا.
حاولت أن أمد يدي مرات لأضع تلك الرأس الحبيبة على كتفي، وأمسح تلك الدموع بكفي، وأقبّل اليد وأزيل عن ذلك الملاك الحبيب حزنه وألمه.. ولكنها الأسلاك ردتني!
وجاهدت نفسي لأمنع تلك الدمعتين الكبيرتين من السقوط.. ولكن هيهات فقد سقطتا تتدحرجان على وجهي.. وأحست بمرارة في حلقي، ولم أستطع إلا أن أردد تلك الكلمة الحبيبة.. أُماه.. أُماه.. أُماه.. وأخيرًا استطعت أن أتكلم، وأن أملك زمام نفسي، فمسحت دموعي بملابسي، وقلت لأمي: بربك لا تبكي يا أماه، فإن بكاءك يقطع قلبي، ويمزق أحشائي، فمسحت الأم دموعها، وابتسمت، حتى إنها جاهدت جهادًا جبارًا حتى تبتسم، وأخيرًا أشرق ذلك الوجه الملائكي بابتسامة لترضي ابنها، ابتسم وجهها وقلبها يحترق، وأقبل الحارس بوجهه المقطب، وشاربه الضخم، وصوته الأجش، معلنًا انتهاء الزيارة، فدمعت عيون، وغصت حلوق، واضطربت قلوب، وودعت أمي، وكأنهم ينتزعون منها فؤادها، وعدنا إلى الزنازين بقلوب منكسرة، ووجوه قد ذبلت، وارتميت على فرشتي أبكي فراق أمي، غير أنى بمسحة طيبة على قلبي أنستني حزني، وأرجعتني لواقعي، فنهضت فصليت لربي.