لست حكيما، كل ما أقوله مجرد كلمات سمعتها من أفواه الطيبين الذين غادروا عالمنا مسرعين؛ خشية أن يفوتهم القطار، كنت أستوقفهم بعض الوقت ومن ثم أسرق حكاياتهم، ربما تكون بسيطة لكنها ممتعة، تعلمت أن أدونها في قصاصات صغيرة، حدث شيء غريب؛ نسيت أن أرتبها، ويا هول ما حدث لقد تداخلت.. صارت أشبه بلوحة سيريالية!
أعجبتني الفكرة، إنها لعبة طريفة، جلبت إلى معجبين كثرا، يقال عني: ساحر، ذلك يثير في رغبة بالزهو، بالفعل أنا أحد الحواة الذين يأتون بالعجب، اعتقدت ذلك في نفسي، بدأت أمارس طقوسا غريبة: ارتديت قناعا ملونا، وضعت نظارة سوداء على عيني، أطلت سوالفي، صار شعري أشبه بفراء القنفذ.
هذه أيام يعاني الناس فيها من فقر شديد، تبيع الفتيات في الأسواق كل شيء، تتشمم الكلاب أذيالهن، إنه الاحتياج لعالم رخيص، استدرت بعيدا، لا يحق لي أن أدون هذه في حكاياتي الصغيرة؛ عين الحارس يقظة، ثمة هاجس ينتابني؛ أن أبيع مفرداتي عند مدخل المدينة، سيقولون مجنون، كيف لهؤلاء الجياع أن ينظروا في ورقة بها كلمات؟
فكرة سخيفة لن يأتي واحد لينظر في بضاعتي المزجاة، عادت بي آلة الزمن حيث مولانا في قصره، يتخطف الناس من حوله، لقد غاض النهر، أخذت في الرقص على وقع طبلة كانت تتابع دقاتها قريبا مني، يهتز حبل في رقبتي، يتحرك جذع شجرة عند باب زويلة، ما يزال وقت قبل أن أصير خبرا يتناقله المنادي جوار سور قلعة الجبل، أهذي بمفرداتي، تعمدت أن تكون مسجوعة، أقبل الصغار يشاهدون الحاوي، أعجبتني التجربة تماهيت مع حالتي، صدقت نفسي؛ فمنذ زمن لم أفعل هذا، جاء رجل معه قرد يجيد الرقص، تجمعوا عند باب الخلق، صارت أشبه بساحة رقص في حضرة إمام الزمان، رأيت جراء وقططا تلعب، تزغرد نسوة في سعادة، تاهت مني الأمكنة العطبة، سرت داخلي رعدة، لقد تحولت إلى مجذوب، انثالت من فمي مفردات مشاغبة، طلبت من سجان النهر أن يدعه بجري، زوجت الفتيات -اللاتي تشبه خدودهن التفاح- لكل الفتيان المعطلين عن نزوات ليالي الخميس، حقا إنها لعبة ممتعة، رجوت صاحب الزمان أن يهب لكل الجوعى نصف رغيف محشوا بالفريك، يدع قمر الزمان تنجب طفلا، سنهلك إن لم ينز عليها كما الكباش في معطن الأغنام.
وحدها تعرف سري، تقف على مقربة مني، تحمل أعواد النعناع الأخضر، تترك في الساحة عطرا، كلما غفوت ألقت إلى بورقة خضراء تشدني إليها، بلغ بي التعب حده، ارتميت على الأرض، يسيل مني العرق في نهار قائظ، ينهال علي حارس البوابة السوداء بعصاه، تتوسل إليه أن يتركني، يماطلها، تواعده ليلة حين يغيب صاحب الزمان، خدعته؛ كان مخصيا، في بلادنا لا تنتهي المقامات ولا أصحاب القباب الخضراء!
غافلت حارس المدينة، هرولت مسرعا ناحية مجرى العيون، تدوي صيحات خلفي، تعدو كلاب من كافة الأنحاء، تكورت كالقنفذ، أخرجت لساني الذي بلغ به الطول أن صار كساء لزجا غطى كل جسدي، ألقيت بنفسي في النهر، وجدت الخضر يمسح صدري، يبارك لي النجاة، صرت مباركا عندما تلقاني، يعوي ثعلب في الجهة اليسرى، توزع قمر الزمان ماء الورد.
تلك المعالم صارت باهتة، لم تعد لديها حاسة الشوق إلينا فهي تتنكر لنا، منشغلة بآخرين سكنوها بعدنا، فالأمكنة بمرور الزمن تصاب بهشاشة الذاكرة أو لعلها تعرفت إلى هؤلاء الذين يجيدون الرقص على الحبال المطاطية، إنه زمن الرحيل عن مدن الموت البطيء. تطارد ورد الربيع بألف وجه بلاستيكي.
وقفت عند ضفة النهر الذي ضربه اليتم، أنتظر سفينة قادمة من الضفة الأخرى.
في تلك الساعة أدركت أنني عاجز، أصابت جسدي العلل، تتوالى الأمواج في صخب، أنت لا تنزل النهر مرتين، مؤكد أن هذا المنطق قد صار ككل شيء فقد صوابه، باتت الأشجار فريسة للخريف يضربها بقسوة، أحال أوراقها إلى صفرة العدم.
جهل ساعي البريد باب بيتنا المنزوي خلف تلك الأبنية العالية، بحثت في صندوق الرسائل، سكنته العصافير التي كانت يوما تصدر غناءها، غدت الآن خرساء، تناثر ريشها صباح اليوم، أسراب من الغربان غزت مدينتنا، نشرة الأخبار في الليلة الفائتة حذرتنا من كائن يهدد خزائن الأوراق ودور المحفوظات، بلا آباء سيكون الأطفال، الأمهات سيجبرن على إرضاع من لم يلدن؛ فاللبن في أثدائهن يفقد طعمه، يتم مبكر في تلك المدن المالحة.
حالة من الفزع تخيم على المشاهدين، يصخب سكان البنايات الشاهقة؛ أغان وكؤوس وخصور، إنه عالم آخر، تنكر الشوارع المارين في الزوايا المصابة بالعتمة، اختلط الصغار بعضهم ببعض، تماثلت ملامحهم، تنتشر شائعة أن الجينات باتت هي الأخرى مغشوشة، حين جاءت الغربان سكبت في النهر داء العته، انتفخت حبات القمح أكثر مما هو معتاد ثم بعد جاءت ريح وألقت بها بعيدا، التقمتها تلك السوداء، أحد هؤلاء المتسكعين في ميادين المدينة انتهزها فرصة، اختزن لحوم الغربان في علب من صفيح، بات الناس يشتهون تلك اللحوم الحمراء، إعلانات الأغذية تغري بالمزيد منها، موسيقى راقصة تصدح، عارضات الأزياء تخطر بثياب من ريش الغربان، برامج الرغي المسائي تلوك مزايا الحياة الجديدة، مراكز علاج الخصوبة تتحدث عن سر الجينوم عند هذه الكائنات المثيرة للفحولة.
في صندوق البريد رسالة لم تصل بعد إلى وجهتها “يكمن الخطر عندما يضرب الخريف أغصان الأشجار”.
احتارت الجهات المسئولة عن توفير السعادة لسكان البنايات الشاهقة؛ كيف لها أن توفر المزيد من تلك الطيور السوداء؟
تترد شائعة أن جهة ما تسعى لجلب المزيد من تلك الطيور، فالمزيد منها كفيل بأن ينسي الجوعى فتات الخبز المدعم، لن يستهلكوا الكهرباء ولن يشربوا من ماء النهر، سيكتفون في ليالي الشتاء بالنوم ولن يعاشروا الزوجات، هذه عقاقير لن تكلف الخزانة شيئا؛ سيزداد الاحتياطي النقدي.
في هذه المدينة تفقد المصابيح ضوءها، تحاصر العتمة العيون، تصاحب الغربان الوطاويط، لم تعد الأسماء ذات مدلول، يتحسس الجميع موضع كلماتهم، فالجدران تسكنها العقارب.
يجوب رجال الوالي الشوارع، يرقبون الداخلين إليها؛ فبوابة المتولي تعلوها كاميرات خفية، لم يعد في قطارات المدينة مكان لمن يدبون في الحارات الخفية، حتى الشمس تشرق أولا على أصحاب البنايات الشاهقة.