لم يأت عام 1955 حتى كانت فرنسا مطمئنة على اختيارها لمن يخلفها في تونس، فقد تخلصت من أصحاب المرجعية الإسلامية، ممثلين في الشيخ عبدالعزيز الثعالبي (1874 – 1944)، والزعيم النقابي فرحات حشاد (1914 – 1952)، وأكبر دليل على ذلك رسالة تم الكشف عنها مؤخراً بعث بها الزعيم العروبي صالح بن يوسف (1907 – 1961) يعرض فيها نفسه على فرنسا ليكون بديلاً عن بورقيبة، لكن فرنسا كانت مطمئنة إلى أبعد الحدود لبورقيبة لدرجة لم تلتفت فيها لرسالة بن يوسف فحسب، بل هناك مؤشرات تدل على أنها شاركت في اغتياله في فرنكفورت بألمانيا، أو وفرت الدعم اللوجستي لذلك في أقل الأحوال.
ومن بين هذه الدلائل، على اطمئنان فرنسا لصنيعتها، موقف بورقيبة بعد سقوط فرنسا في قبضة الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية، ومن ثم تونس ودول أخرى في الفترة ما بين عامي 1940 و1944، فقد رفض التعاون مع الألمان، إخلاصاً لفرنسا، وهذا ليس بُعد نظر، بقدر ما هو ارتباط بمشروع الهيمنة الفرنسية في منطقتنا، وفي مقدمة ذلك تونس والمغرب الإسلامي، فكيف تفرط فيه؟
مواصلة الإقصاء
لقد واصل بورقيبة (1903 – 2000) سياسة فرنسا في إبعاد وإقصاء الإسلام والإسلاميين عن الشأن العام، بل ما فعله يفوق بكثير ما فعلته فرنسا، لذلك يخلّد في تاريخها فتسمى الشوارع باسمه، والصالات باسمه، وتقام له التماثيل في ساحات باريس، بعد الثورة التونسية، وهي سابقة لم تفعلها أي دولة استعمارية في العالم لمن يفترض أنه ناهضها.
ففي فترة ما بعد الاحتلال المباشر، تم حظر الحزب الحر الدستوري التونسي، الذي أسسه الثعالبي عام 1920 م وألغيت الأوقاف، وأغلقت جامعة الزيتونة، بل أغلقت عشرات المعاهد ومئات المدارس الإسلامية، ولم يكن ذلك سوى إمعان في إقصاء الإسلاميين من التأثير في الشأن العام، فضلاً عن إدارته أو المشاركة في ذلك.
وعندما حصل بعض الانفراج على المستوى في تونس في ثمانينيات القرن الماضي، وسمح للحزب الشيوعي والأحزاب الفرنكوفونية، والليبرالية، بمعاودة النشاط تم استثناء الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، والقومية من الترخيص للعمل في إطار القانون.
ولم يكن ذلك الموقف بعيداً عن مواقع القرار الفرنسي، فقد كان الموقف الفرنسي في حسبان بورقيبة في أقل من ذلك الشأن، فقد نقل عنه قوله رداً على مشروع تطوير التعليم الذي قلص اللغة الفرنسية: ما هذا؟ كيف سيكون موقفنا إذا علمت فرنسا بأن لغتها تم تقليصها؟!
لقد كانت فرنسا حريصة على التعامل مع بورقيبة حامل ثقافتها، مفضلة إياه على أنصار الهوية الإسلامية، بحثاً عن منفذ لجعل تونس والمغرب الإسلامي بحيرة فرنكوفونية، لا دينية بتجفيف منابع التدين الإسلامي، وهذه السياسة الفرنسية لم تتبدل ولم تتغير في عهدي بورقيبة، وبن علي، وحتى اليوم.
ومع تنامي الحركات الإسلامية في تسعينيات القرن الماضي، تصدت فرنسا للصحوة الإسلامية من خلال تحريض الأنظمة الدائرة في فلكها على قمع الإسلاميين، والانقلاب على نتائج الانتخابات في الجزائر بإشراف مباشر من الرئيس الفرنسي الأسبق، الاشتراكي فرانسوا ميتران، الذي عرف بنهجه الصارم ضد ما سمّاها بجماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها حزب جبهة الإنقاذ الإسلامي الجزائرية، وحركة النهضة في تونس، وكان ذلك في بدايات ما يعرف بالعشرية السوداء في الجزائر، بخلاف بلدان غربية أخرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا، التي فتحت المجال لاستقبال آلاف اللاجئين الإسلاميين الفارين من ملاحقة السلطات في الجزائر وتونس.
كانت فرنسا وراء كل ما لحق الإسلاميين في المغرب الكبير من أذى، وهي تحتفي بكل من يعلن الحرب على الحركة الإسلامية في بلده، فمعركة فرنسا مع الثقافة الإسلامية، وما يسميه المفكر الفرنسي المسلم بـ”الاسلام الحي”، تسير بنفس الوتيرة منذ نحو 140 عاماً.