الدرس الأول: الانفتاح على الأدلة المخالفة (4)
أصحاب النزعة المادية
صنف آخر من أصحاب الرؤى المخالفة لمبدأ الألوهية، وهم أصحاب النزعة المادية، أي أولئك الذين يعتقدون في المبدأ المادي كأساس لخلق الكون وحركته وصيرورته، ويرون أن القوة الدافعة للمادة الكامنة في الكون هي التي تتخلل ثناياه وتضبط وجوده وتؤثر في حركته وبناء قوانينه، ومن ثم قلا مجال للمطلقات ولا الغيبيات ولا الغائيات ولا أية قيم معنوية تتعلق بالوجود غير الوجود المادي المشاهد المحسوس والملاحظ عبر الحواس.
سجل القرآن موقف اتجاه من أصحاب النزعة المادية وهم (الدهريون) الذين أنكروا الغيب جملة ومنه خاصة البعث والنشور والجزاء والحساب، وهو إنكار مترتب على إنكارهم الأكبر لوجود الله تعالى، ومن ثم يأتي موقفهم بصورة ترتيبية على هذا الإنكار: إنكار وجود الله، ثم إنكار البعث والنشور، إنكار مالكية الكون لله تعالى، إنكار كل ما هو غير قابل للملاحظة والمشاهدة.
المفهوم
لغة: الدهريون من الدهر، والدهر في الأصل: اسم لمدة العالَم من مبدأ وجوده إلى انقضائه، كما في قوله تعالى )هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ( [الإنسان: 1]، ثم يعبر عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان، فإن الزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة[1].
اصطلاحا: الدهريون: تلك الطائفة التي نسبت إلى الدهر (أي الزمن) عملية الخلق والمصير، وأنكرت وجود الغيب جملة بدأ من الله تعالى وكل ما يترتب على هذا الوجود. وهم تحديدًا يستبدلون مجال (الألوهية) عند المؤمنين بمجال (الطبيعة) التي يردون إليها كل شيء في حركتهم اليومية والوجودية.
تربويًا: يترتب على قول الدهريين: إنكار أي معرفة قيمية، أو أي مبادئ معيارية في الكون، أو تفرد الظاهرة الإنسانية عن باقي الظواهر الطبيعية، بل إدماج الإنسان في الطبيعة، وتحويله إلى إنسان طبيعي يحتكم في قوانينه لكل ما تحتكم إليه الطبيعة من قوانين، ومن ثم تختفي اية قوانين أخلاقية أو ما شابه في الحياة الإنسانية.
المحتوى القرآني لموقف (الدهريين):
سجل القرآن موقف الدهريين وحججهم وآرائهم في الخلق والبعث والنشور كما يلي:
- وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام – الآية 29].
- إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون: 37].
- وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24].
- مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوابِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الجاثية: 25].
- قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يسن: 78].
- نَمُوتُ وَنَحْيَا:
إن قول الدهريون “نموت ونحيا” يعني أن الناس كالزرع يُحصد هذا وينبُت هذا، يقولون يموت هؤلاء، ويأتي آخرون.. أو نموت نحن ويأتي أبناؤنا بعدنا، فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم، لأنهم منهم وبعضهم، فكأنهم بحياتهم أحياء.
يذكر القرطبي: أن هؤلاء الدهريون كانوا يعتقدون أن الدهر هو الفاعل كما أخبر الله عنهم [كما ورد في حججهم] فكانوا إذا أصابهم ضر أو ضيم أو مكروه نسبوا ذلك إلى الدهر.
- ائْتُوا بِآبَائِنَا:
طلب الدهريون أن يأتي الرسل بآبائهم حتى يصدقوهم في الغيب وفي الله، وقد سمى القرآن قولهم هذا – رغم تهافته- حجة لهم رغم أنه لا يعد حجة بل ظن لا يبنى على أسس عقلية.
المنظور الفكري للدهريين
إن الرؤية الفكرية التي يقوم عليها هذا الاتجاه المادي في التفكير، ترى أن العالم/ الكون يحتوي على ما فيه من عوامل لازمة للحياة، تؤدي إلى تفاعله ذاتيًا وتلقائيًا، ومن ثم فهو يتضمن عوامل الموت والحياة. فليس هناك أي تأثيرات خارجية متعالية. وليس الكون بما يتضمنه من عناصر التوالد الذاتي في حاجة على غيره، وهو كذلك يقنى ذاتيًا وليس بفعل خارج عنه، فالكون يتضمن عناصر الحياة كما يتضمن عناصر الموت.
إن الناس وفقًا لتلك الرؤية المادية يحيون بالتوالد الذي هو نتيجة التزاوج بين الذكر والأنثى، ثم يمرون بأدوار الطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة حتى يصلوا إلى الانهيار التاك والموت الحتمي. كل ذلك بفعل الزمن (الدهر) الذي مروا به، والحياة التي لبسوا ثوبها، واحتملوا تصاريفها وأثقالها.. إذن فليس وجودهم إلا نتيجة حتمية للتفاعل الحيوي، وليس موتهم أيضًا إلا نهاية طبيعية لهذا التفاعل، فالعدم سابق للأحياء لاحق بهم بحكم التوالد الذاتي[2].
يتبع إن شاء الله (محاججة القرآن للدهريين والرد عليهم وتفنيد دعواهم)..
[1] مفردات الفاظ القرآن، ص 319.
[2] محمد محمد المدني: “القرآن الكريم وقضية البعث”، مجلة رسالة الإسلام، عدد 36، ص 426.