المثل العربي يقول: “الكتاب -الجواب- يُقرَأ من عنوانه”.. يقابله على العكس في المعنى مثل انجليزي يقول:
“ you can’t judge a book by its cover ”
المثل العربي يأخذ انطباعا سريعا عن الموضوع من عنوانه، والإنجليزي يدعو لعدم الثقة في عنوان الكتاب، وسرعة الحكم عليه من غلافه.
الأمثال والقصص الشعبية والأساطير ميراث تتوارثه الشعوب، ويختزن ثقافتها وتجاربها، ولا تعدم أن تجد وجها للصحة حتى في الأمثلة المتناقضة كحالتنا تلك.
فالمثل العربي يحمل وجها للصواب يجعل العنوان مؤشرا على الموضوع وكاشفا مبكرا للحكم عليه، وهو يتناسب مع أمة تميل للحكم بالحَدْس والتخمين، وتتميز بالعواطف المشبوبة؛ فعاطفتها وحدسها يسبق عقلها في كثير من الأحكام.
وفي المقابل يأتي المثل الإنجليزي من عقلية ديكارتية مبنية على الشك إلى أن يثبت اليقين، والنقد والتحليل حتى تتمايز الأشياء.
وبحكم الموروث الثقافي وقف كثير من الناس موقف الرفض لعنوان مسرحية “المومس الفاضلة” من تأليف الفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر”، وقد بينت حيثيات ووجاهة ذلك في مقالي السابق.
وننتقل من العنوان إلى المحتوي:
تدور أحداث المسرحية حول امرأة بغي تصادَفَ وجودها في قطار حدث فيه اعتداء من أربعة رجال بيض سكارى على اثنين من السود، وأثناء مقاومة السود قام رجل من البيض بقتل أحد الرجلين الأسودين وفر الأسود الآخر من القطار.
وظل مصير الرجل القاتل معلقا بشهادة زور من المرأة البغي تبرئه من جريمته.
ويظل الحدث الدرامي في تصاعد مع الضغط على المرأة لتشهد زورا، وممانعتها لذلك، وصمودها أمام الإغراء بالمال، ثم تدخُّل عضو من الكونجرس وهو خال القاتل، بالاستمالة والتهديد، وصولا لنهاية الصراع بفرار الرجل الأسود، وتصويب المرأة البغي مسدسها نحو الرجل الأبيض، والرجل الأبيض يعدد لها مآثر عائلته:
“جدي الأكبر زرع غابة بمفرده، وقتل سبعة عشر هنديا بيديه..، وابنه بنى هذه المدينة، وكان رفيقا لواشنطن..، وجدي استقر هنا، وصار حاكما للولاية، وصار أبي عضوا بمجلس الشيوخ، وسأصير أنا عضوا بمجلس الشيوخ، لقد صنعنا هذا البلد وتاريخنا هو تاريخه.
فهل تجرئين على أن تطلقي النار على كل أمريكا؟!”.
من خلال النص المسرحي يعلن “سارتر” عن موقفه المناهض للعنصرية ضد السود، ومناهضته لتسلط الأسر ذات النفوذ السياسي، ويرفض فكرة الوطن الذي يعلو فوق حقوق المواطنين.
والنص في سياقه التاريخي عمل ثوري في نقده للعنصرية في بداية صعود أمريكا لقيادة العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وينحو منحى فرنسيا تقليديا في رمزية المرأة في العمل التحرري، ويعبر عن قناعة “سارتر” بأفكاره التحررية، وتمرده على الدين، وبالذات الكنيسة ورجال الكهنوت (وتكرر هذا كثيرا في النص).
وعمل كهذا يحتاج في إعادة عرضه بعد نحو ثمانين عاما من كتابته إلى إعادة صياغة تتناسب مع العصر والبلد الذي سيُعرَض فيه.
فالقضايا المركزية التي عالجها النص في مناهضة العنصرية والتمييز واستغلال النفوذ السياسي، تغيرت أشكالها خلال تلك السنوات، وتتغير من بلد لبلد، والقيمة الحقيقية للنص مسرحي كهذا تعلو بقدر اقترابها من قضايا جمهور مشاهديه.
فهل سيتم إعادة صياغة النص لطرح القضايا التي تمس التمييز وكبت الحريات واستغلال النفوذ السياسي الذي تعاني منه مجتمعاتنا، أم سيعيد طرح قضية التمييز ضد السود؟!
إذن سيبقى الحكم على العمل معلقا لحين معرفة القالب الدرامي والأفكار التي ستُعرَض فيه.
وأفترض بحسن نية أن محتكري المنابر الإعلامية والثقافية الذين ملؤوا الدنيا صياحا بتجديد الخطاب الديني، سيقدمون لنا نموذجا عمليا بتجديد خطاب “سارتر” بما يتوافق مع قضايا العصر وثقافة المِصر (البلد).