شكت لي كيف تخاف من القيام بعملها كمدرسة للدين حين تجد شغفاً بالمعرفة من إحدى طالباتها، الفتاة تسأل وتسأل، وكلما ازدادت علماً ازداد تطلعها إلى المزيد، وفي الجانب المقابل، هناك أسرة لا تلتزم بالحد الأدنى من تعاليم الإسلام؛ فالأم تأتي بابنتها إلى المدرسة بلباس ينقصه الكثير من الحشمة، وربما كانت الأم عنواناً صادماً لبقية البيت.
إن المعلمة تخاف أن تقارن البنت بين ما تسمعه من واجبات شرعية وآداب وأخلاق وما تجده داخل أسرتها مما لا يمت إلى الدين والخلق بصلة، هذه الفجوة الرهيبة قد تدفع الفتاة إلى أمور تبلغ في حدها الأدنى الانعزال عن الأسرة والعيش في غربة بين والديها وإخوانها وأخواتها، وقد ترتفع الوتيرة إلى الإنكار الممزوج بالغضب، أو تصل إلى حد الرمي بالفسوق والعصيان وربما الكفر، ومن ثم يعود الجميع على المعلمة باللوم والترهيب الذي ربما أدى إلى الفصل من العمل.
على معلم الدين ومحفظ القرآن عبء كبير، فهو يريد أن يملأ قلوب تلاميذه بتعاليم الإسلام، وفي الوقت ذاته يخشى من اتهام الناس له بشتى التهم التي أثارتها الجهات الكارهة للإسلام، وهو بين أن يقوم بدوره أو يخاف فيتحول من معلم ومربٍّ إلى ملقن لتعاليم صماء لا تبعث في النفس خوفاً من الله وحباً له سبحانه ووقوفاً عند حدوده ومسارعة في الخيرات.
تأملت في هذا الموقف الذي تضع فيه النفس قيوداً وأسواراً حولها، ربما بسبب الأجواء المحيطة التي يثار فيها الغبار على الدين وأهله، وربما بسبب الوهم، لكن لنبحث لأنفسنا ولمعلمتنا عن مخرج:
1- إن الأسرة التي وصفتها المعلمة بالخروج عن تعاليم الإسلام تلتمس النجاة لابنتها حين ألحقتها بمدرسة تعلّم الدين والخلق، وربما كانت تشعر بقبح ما هي عليه وتريد لابنتها أن تكون في حال أسعد وأحسن وأقرب إلى الله ودينه، هذه النية التي تفهم من إلحاق الطالبة بمدرستك ينبغي أن تقابَل منك بأعظم ترحيب، بل وشكر على تعريض ابنتهم لنفحات الخير، وكونهم ائتمنوك على فلذة كبدهم وقرة أعينهم، ولعلك بذلك تفتحين نافذة للخير تهب منها ريح الإيمان ونور الحق؛ فيفيض الله تعالى عليهم من الخير ما ينتقلون به من حال إلى أحسن منه.
2- ما الأخلاق والقيم والمبادئ التي ينبغي أن يتلقاها أبناؤنا من خلال مدرس الدين؟ نتذكر قول عيسى عليه السلام: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ) (مريم: 31)؛ أي: نفّاعاً للناس، وأولى الناس بنفعهم هم أسرته، فيتحول وجوده إلى مصدر للسعادة والهناء، إذ يجدونه سباقاً بالخيرات مبادراً ناجحاً متفائلاً عنده توازن نفسي لا تبطره النعمة ولا تقصمه المصيبة، هذه العناوين الجميلة تنتقل من المعلم إلى الطلاب من خلال الدروس والقصص والمواقف، ينقلها المدرس بقلبه وروحه وسلوكه قبل لسانه؛ فتتحول إلى بذور جاهزة للإنبات في أول فرصة تنبت رحمة وإحساناً وجمالاً، هذه العناوين التي طرحناها هل يمكن لأحد أن يختلف عليها أو لا يرجو أن ينال أولاده منها النصيب الأوفى، فعوائد الخير ستعود عليه أولاً وقبل الناس.
3- التأكيد على بر الوالدين مهما كانا، بل حتى لو وصلا إلى درجة الكفر؛ (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) (لقمان: 15)، ربنا سبحانه وتعالى الذي أمر بالتوحيد وبغَّض إلينا الشرك يأمرنا بالإحسان إلى الوالدين حتى ولو أمرا أبناءهما بالشرك، بل حتى لو جاهداه على الشرك، الموقف الذي أمرنا الله تعالى أن نتخذه نحوهما هو عدم طاعتهما، ولا تعني معصيتهما في الدعوة إلى الشرك الإساءة إليهما، بل أمر الله تعالى لعباده الصالحين: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً).
4- قد يغيب عن بعض المعلمين هذه الحقيقة حين يلقنون أبناءنا التعاليم الإسلامية، فيحضر نفور الأبناء من الوالدين بسبب ما يقعان فيه من معاص على أي حال لا تصل إلى الشرك، وقد لا يدرك الوالدان وقوعهما في ذنب مهما كان كبيراً ومعلوماً عند الكثيرين من الدين بالضرورة، فمعرفة الناس بالدين متفاوتة، والتزامهم بتعاليمه أشد تفاوتاً، ولعلهما إذا نبها انتبها وتركا ما هما عليه من إثم.
5- التأكيد على معاني الرحمة، وأنها تجمع المتفرق وترد الغائب وتصلح الفاسد، ومع ما أوتي النبي صلى الله عليه وسلم من معجزات ودلائل على نبوته يقول الله تعالى له: (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159)، فكيف بنا إذا كانت الفظاظة تصرف الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فماذا سيكون حالنا ونحن لم نؤت ما أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذا كنا من أهل الفظاظة سيكرهنا القريب والغريب، وسينصرفون عنا وربما عن الدين نفسه، وهذا ما ينبغي التأكيد عليه ونحن نعلم أبناءنا أن كونك على الحق لا يعني أبداً أن تكون العبارة جافة والمعاملة مع الآخرين سيئة وخصوصاً الأقارب الذين يرون لهم علينا حقوق القرابة والسن.
6- لعلهم يجدون عند ابنتهم من مكارم الأخلاق والهمة العالية والتفاني فيما يسعد أسرتها ما يكون عامل جذب آخر نحو الهداية.
7- ونحن نعلّم أبناءنا ننتبه لقوله تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ) (آل عمران: 79)، والرباني هو الذي يعلم صغار العلم قبل كباره، ونبدأ بما لا يسع المسلم جهله من عبادات تلزمه وقت التكليف، ونراعي أن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، فما وسع الطالب حتى نعلمه من جانب ونلزمه بتطبيق ما تعلمه من جانب آخر؟ ونراعي أشد المراعاة رغبة الطفل في اللعب والترويح عن النفس، بل هي حاجة إنسانية لا يستغني عنها الكبير والصغير، فنذكر له من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الترويح عن النفس، ونشاركه المرح البريء ليظهر كذب من يقول: إنكم تقتلون براءة الأطفال وتغتالون أحلى مراحل العمر، ومن فعل ذلك فقد خالف هدي النبوة وأجرم في حق من ائتمنه الله عليهم بل أساء إلى الإسلام من حيث لا يدري.
8- ولعلنا نؤنس أنفسنا وطلابنا بذكر قصص المهتدين حتى نملأ قلوبهم بحسن الرجاء في الله تعالى، وذلك من باب الترغيب ونزع اليأس من قلوبهم، وعندما يستقر في وجدانهم هذا المعنى يدركون أن أحوال البعيدين عن الله تعالى من أهليهم قد تتحسن، وأن الفرصة قد تأتيهم ليكونوا صالحين بل في أعلى درجات الصلاح.
9- إن خروج أناس صالحين من بيئة فاسدة أمر معروف منذ بدأ الإسلام، بل كان هذا من رجاء النبي صلى الله عليه وسلم وحسن ظنه بربه عندما جاءه ملك الجبال على إثر سوء معاملة أهل الطائف له يقول له: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا، ولكن أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله”، إنهم كفار وعاملوا النبي صلى الله عليه وسلم بطريقة لا تلائم تعامل العرب مع ضيوفهم، وسبب سوء المعاملة هو العداوة بينهم وبين الدين، ومع ذلك لم يقطع النبي صلى الله عليه وسلم رجاءه منهم، فلا نقطع رجاءنا من الناس مهما كان فسادهم، فالانتقال من الكفر إلى الإيمان ومن الفساد والإفساد إلى الصلاح والإصلاح يحدث يهدي الله لنوره من يشاء.
10- لكل مهنة مخاطرها، ونحن نتجاوز هذه المخاطر بطلب المعونة من الله تعالى وبالانتفاع بما مر بنا من تجارب.