في ظل حجم الكارثة والمأساة التي تعرضت لها تركيا وسورية جراء الزلازل التي ضربت عدة مناطق بالبلدين مؤخراً، وخلفت عشرات آلاف الضحايا، أصدرت «هيئة علماء فلسطين» فتوى حول إنقاذ من كان تحت الزلزال.
وعرضت الهيئة سؤالين في المسألة:
الأول: ما حكم التوقف عن إنقاذ شخص حي تحت الركام بحجة الخوف من انهيار المبنى على المنقذين؟
والثاني: هل يتعين إنقاذ منكوب تحت الركام على من كان حاضراً ويظن أنه قادر على الإنقاذ على الرغم من كونه غير مختص بالإنقاذ؟
وكانت الإجابة لعضو هيئة علماء فلسطين د. منذر زيتون، فيما يلي نصها:
إنقاذ من يتعرض للخطر هو أمر جليل وعمل عظيم في الإسلام، وصاحبه مأجور من الله تعالى، وهو في الأصل واجب على من قدر عليه، أو استطاع أن يساهم فيه بأي صورة ولو بمجرد طلب المعونة من الآخرين أو حثهم على فعله لما في ذلك من حفظ النفس الإنسانية وإحيائها، ومعلوم أن حفظ النفس مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، وقد قال الله عز وجل: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة: 32).
وفي المقابل، فإن من تقاعس عن ذلك أو تخلى عن دوره في إنقاذ المبتلى والمعرض للخطر وهو يقدر على ذلك تحت ذريعة الخوف أو الجبن أو اللامبالاة؛ فإنه آثم؛ لأنه لم يقم بواجبه الشرعي، ولو تخيل ذلك المتقاعس نفسه مكان ذلك المسكين لفهم معنى أن ينصر الإنسان غيره، ولعرف قيمة البذل والعطاء للآخرين من الضعفاء والمساكين والمحتاجين والمعرضين للأخطار، مع ملاحظة أن الآية الكريمة السابقة تنص أيضاً على قوله تعالى: (مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة: 32)، وأي فساد أعظم من تعريض الناس للخطر أو تركهم يعانون منه مع الامتناع عن نجدتهم.
ولكن في الوقت نفس، فإنه لا ينبغي للإنسان أن يعرض نفسه لخطر الهلاك إن علم أنه يعجز عن إنقاذ غيره، فالله تعالى لا يكلف النفس بأكثر مما في وسعها، ونهى أن يعرض الناس أنفسهم للهلاك من غير موجب، فقال عز وجل: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195)، وهذا يدعو الفرد أمام هذه المسألة الصعبة أن ينظر إلى قدراته، فإن قدر مضى في عمل الخير ومد يد المساعدة لمن يحتاجها، وإن عجز عن ذلك فعليه أن يستعين بمن يقدر عليها، فإن لم يجد من يعينه قام بما يقدر عليه مستعيناً بالله تعالى، سيما أن هذا الواجب يعد من الواجبات الكفائية التي إن قام بها البعض سقط الطلب، وما انبنى عليه من الإثم عن الباقين، التي أيضاً يتوجب على المرء فيها القيام بالحد الذي يستطيعه لأنه هو ما سيحاسب عليه.
وأما إن تيقن الفرد أنه يستطيع أن ينقذ غيره ولكنه يمكن أن يهلك في مقابل ذلك، فهو هنا أمام أمر غاية في الأهمية يقوم على تقدير الموقف وما ينبني عليه، فإن قدَّر احتمال موته في مقابل إنقاذ غيره فإنه لا يلتفت إلى الظن أو الشك ويمضي في تلك المهمة المقدسة، وما كان جهاد المجاهدين من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا إلا أنه يدور في مثل هذه الدائرة، وإلا ما الذي يدفع المجاهدين إلى مواجهة العدو وقتاله وهم يعلمون أن موتهم قاب قوسين أو أدنى إلا أنهم أرادوا أن يفدوا الآخرين بدمائهم وحيواتهم ويهبوا لهم السلامة والأمن وإن ضحوا بأنفسهم الغالية، والشهيد في عقيدتنا حي لا يموت لما يتمتع به من رضا الله تعالى وجنة الخلد والجزاء العظيم، وقد أكد ذلك قوله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169).
وإن كان موته حتمياً مع موت من يريد أن ينقذه فلا ينبغي له أن يفعل ذلك؛ لأنه يعرض نفسه في ذلك للهلاك، وأما إن تيقن من موته في مقابل إنقاذ غيره فهو هنا مخير بين أن يمضي في الإنقاذ وبين أن يتوقف، ولن يكون مؤاخذاً فيما اختار لأنه في الحالتين سوف يعمل على إحياء نفس من النفوس.
على أن إنقاذ الآخرين لا يعني بذل النفس دائماً، وإنما قد يكون أحياناً ببذل بالمال أو الوقت أو الجهد، وكل ذلك مأجور إن شاء الله، قال الله تعالى: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 110).