من الدرر الجميلة التي جاءت في فوائد الإمام ابن القيم رحمه الله قوله: «السنة شجرة والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمراتها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجَدَادُ (قطف الثمار) يوم المعاد، فعند الجَدَادُ يتبين حلو الثمار من مرها»(1).
كلمات قليلة المباني جَمَّة الفوائد والمعاني تنادي أرباب الهمة والمعالي أن هلموا إلى فيوضات الكريم المتعالي، ساعات ونستقبل ربيع الأيام ودرة الشهور، شهر رمضان المبارك وأكرم بها من نعمة أن تدرك هذا الشهر الفضيل فطوبى لمن أحسن ضيافته، وأجمل وفادته، وأكرم زيارته.
«يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا عيون المجتهدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس أقلعي، يا بروق العشاق للعشاق المعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي، ويا همم المؤمنين أسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب»(2).
حروف زانها الإشراق حتى أنارت في النفوس دجى الفؤاد
تنادي الغافلين ألا استعدوا قبيل الخسر في يوم المعاد
الجائزة الكبرى
أول العطايا أن يكتب الله لك السلامة من نار لا يهدأ زفيرها، ولا يفك أسيرها، ولا يجبر كسيرها، وأن يحول بينك وبين لهبها وحريقها إلى جنة عالية، ثمارها دانية، وظلالها وارفة، وأنهارها جارية، وأنوار الحور العين فيها زاهية؛ (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران: 185)، منتهي أمل الطالبين ورجاء الخائفين دخول الجنان وصحبة سيد المرسلين، وهذه أول منحة ربانية وعطية إلهية من عطايا رب البرية في كل ليلة رمضانية، العتق من النيران القوية إلى صحبة الأطهار أصحاب النفوس العلية قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت أول ليلة من رمضان، صفدت الشياطين، ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة»(3)، ولا يكون التنافس إلا في النفائس، ولا أنفس من الجنة، فمن لم يبذل في سبيلها أنفس الأنفاس شكى يوم القيامة مرارة الإفلاس.
الفرص الثلاث
أرعني سمعك وبصرك وفكر معي قليلاً في هذه الفرص الذهبية والبشارات النبوية من كلام خير البرية؛ «من صام رمضان، وقامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»(4)، «من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه»(5)، «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، فإنه يغفر له ما تقدم من ذنبه»(6).
الفرصة ضيف عابر سريعة الزوال تمر مر السحاب، وعلى العاقل أن يبادرها ويستثمرها عند أول بريق لها، ولله ما أفقه الرافعي في قولته الشهيرة: «أنت إن لم تزد شيئاً على الحياة كنت زائداً عليها»! وهذه فرص ثلاث جاءت في هذه الأحاديث الثلاثة المباركة تجمع للعبد محو الذنوب، وستر العيوب، ومغفرة علام الغيوب، وهل كان الذكر الحسن لعكاشة بن محصن إلا من طيات فرصة واحدة حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنة سبعون ألفاً بدون حساب ولا عقاب»، فقام يجري ليعانق الفرصة قائلاً: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: «نعم»، فلما جاء الآخر ليقفو أثره ويحذو حذوه قال المعصوم صلى الله عليه وسلم: «سبقك بها عكاشة»، بادر الفرصة واحذر فوتها، فبلوغ العز في نيل الفرص، فاغتنم نفائس الأوقات وسارع بالطاعات والقربات في هذه الأيام المباركات.
الدقائق الغالية
دقائق الليل غالية فلا ترخصوها بالغفلة! كلمة راقية جادت بها قريحة أحد النجباء وجعلها الكبار في حياتهم شرعة ومنهاجاً، فقيام الليل مدرسة المخلصين، ومضمار السابقين، وعنوان محبة رب العالمين، وأمارة على صدق المحبين، تخرج من ردهاتها العظماء والأصفياء من الأولين والآخرين، وهو سنة دأب عليها الصالحون، وواظب عليها المجتهدون، يوزع الله فيها عطاياه في جوف الليل لأهل القيام، ويحرم منها الغافلون والنيام، وفرسان الليل أصح الناس أجساداً، وأسعدهم نفوساً، وأصبحهم وجوهاً؛ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (الذاريات: 15)، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فلم يكن يدع قيام الليل في سفر ولا حضر، عن عائشة رضي الله عنها، «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه»، وثواب الأعمال يتضاعف في شهر الغفران فاجعل لك سهماً في قيام الليل لأنه شرف المؤمن وبهاؤه، وإشراق وجهه وضياؤه.
قام المتهجدون على أقدام الجد تحت ستر الدُجى يبكون على زمن ضاع في غير الوصال، إن ناموا توسدوا أذرع الهمم، وإن قاموا فعلى أقدام القلق لما امتلأت أسماعهم بمعاتبة كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني، حلفت أجفانهم على جفاء النوم.
إن كان رضاكم في سهري فسلام الله على وسني(7)
كلام ليس يحلو بعده إلا السكوت، طابت أوقاتكم بطاعة الله ومحبته ورضوانه وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
__________________________
(1) الفوائد لابن القيم، ص 292.
(2) لطائف المعارف لابن رجب، ص 380.
(3) صحيح سنن بن ماجه (1/526).
(4) مسند الإمام أحمد، (18/85).
(5) المصدر السابق (15/264).
(6) المصدر السابق، (5/164).
(7) المدهش لابن الجوزي.