ظهرت دعوة الإسلام في فضاء جاهلي سيطرت عليه العصبية والجهل والتردي الأخلاقي، فاستعصمت تلك الدعوة في مواجهة تلك المذمات المتجذرة في المجتمع بالمكارم الأخلاقية، وتجلى ذلك بوضوح في قول النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه وعن دعوته الإسلامية: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
وقد تركزت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الأخلاق وترك الرذائل من القول والفعل، وسعى لتأسيس مجتمع يسوده قيم أخلاقية راسخة تحمي تماسكه وتدفع عنه التشاحن والتباغض.
وتنوعت مكارم الأخلاق التي تأسس عليها المجتمع المسلم الذي ابتغاه التشريع الإسلامي، ومنها خُلق التعاون: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2)، والتآزر: «مثلُ المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد..»، والإحسان: (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195)، والرحمة: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29).
لكن تجذر الغلظة والعنف والتعصب في المجتمع الجاهلي: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) (المائدة: 50)، (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) (الفتح: 26)، كان سبباً مهماً في ظهور أحد أهم مكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام وارتكزت عليها الشريعة الإسلامية في تنظيم العلاقات الإنسانية والاجتماعية، ألا وهو خُلق «الرِّفق» الذي لا يحظى بانتباه كافٍ لمحوريته في ترسيخ أركان المجتمع الإسلامي على أساس من حُسن الخُلق واللين واللطف، حيث شغل مساحة مهمة من الخطاب القرآني والهدي النبوي.
في معنى الرِّفق ومكانته في الشريعة الإسلامية
والرِّفق في الشريعة يرادف اللين في القول والعمل واللطف في المعاملات وترك العنف والغلظة والحِدة، فيُشير القرآن لأهمية الرِّفق واللين كسبب رئيس لنجاح دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرِّفق في الأمر كُله»، وفي حديثٍ ثانٍ يقول: «إن الرِّفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه».
في مقاصد الشريعة الإسلامية من الرِّفق
وفي السيرة النبوية كان الرفق سلوكاً دائم الحضور في مواقف لا حصر لها على تنوعها واختلاف مقاصدها، حيث قدم النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه القدوة الحسنة بالقول والفعل في الرفق على سائر أشكاله، ليُرشد المسلمين لحُسنِ الخُلق في العلاقات الإنسانية والأسرية والاجتماعية بما يضمن رسوخ التعاضد والتآزر والمحبة بين أفراد المجتمع.
ويتجلى ذلك في المواضع المتنوعة التي بيَّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم لأهمية الرفق ومركزيته كسلوك إسلامي، سواء في علاقة الفرد بأسرته: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»، أو في علاقة الرجل بالمرأة: «رِفقاً بالقوارير»، أو حتى كركيزة من ركائز تربية الأطفال؛ ومن ذلك رِفق الرسول صلى الله عليه وسلم بالحسن والحسين وإطالته في السجود إذا ركِب أحدُهما على ظهره رِفقاً بهم وحباً لهم.
وجاء الرفق في مواضع مهمة كمنهاج راسخ لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في إرشادهم لشؤون دينهم ودُنياهم، ومع غير المسلمين في تطاولهم عليه صلى الله عليه وسلم وتكتلهم ضده، وهو في ذلك كله يُرسخ خلق اللين والرفق بغية نشر الدعوة وترغيب الآخرين في التخلُّق بخلق الإسلام، والدخول في زُمرته عن حب واقتناع لا عن خوف وإجبار.
وقد ابتغت الشريعة من وراء خُلق الرفق تحقيق منافع شتى للفرد والمجتمع بما يضمن سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، فالرفق على المستوى الفردي يُعلّم الفرد حُسن الخلق والصبر على الأذى ومقابلة الإساءة بالإحسان بما يُزكي نفس الفرد ويُصفِّي الروح من كدر الحقد والبغض والكراهية والغلظة، أما على المستوى العام، فإن سيادة اللين في المعاملات الأسرية والاجتماعية يدفع التشاحن ويقي من التباغض والتنازع، ويعصم المجتمع شرور الفتن الناتجة عن تربص الأفراد ببعضهم بعضاً وإساءة النية ورد الإساءة بالإساءة واستشراء النزاع والفرقة.
حضارة السوق والمصلحة كأساس للعلاقات الاجتماعية
واليوم في ظل انتشار النموذج الغربي باعتباره الشكل الأمثل للتحضر والحداثة، تسود المجتمعات قيم السوق كأساس للعلاقات الاجتماعية، والسوق تحكمها قوانين مادية بحتة تبتغي تعظيم رأس المال وتكثير الأرباح.
وبالتالي –وفقاً لآدم سميث– بينما يسعى كل فرد في المجتمع لتحقيق مصلحته الخاصة ونفعه الفردي، تتحقق منفعة المجتمع بأسره، والمقصود بالمنفعة تحديداً المنفعة المادية بالأساس، ومن غير المتوقع تبعاً لذلك النظام أن يتبادل الناس المنافع بدافع الرغبة في عمل الخير، ولكن على أساس اعتبارات المصلحة الشخصية.
وكانت تلك المفاهيم الرأسمالية الحديثة قائمة بالأساس على فصل التشابك بين العلم والأخلاق، وإلغاء المعيارية الأخلاقية لمصلحة المادة والربح، فأصبح المجتمع قائماً بالأساس على مجموعة من القيم –إذا جاز التعبير– الخالية من القيمة الأخلاقية كُلياً مثل اللذة، والمنفعة، والمصلحة، والإنتاج.
ونتيجة لذلك، فقد ذهبت تلك القيم بالمجتمعات الحديثة والمعاصرة إلى شكل مُغاير كلياً لذلك المجتمع الذي ابتغته الشريعة الإسلامية الذي يرتكز إلى الرفق والمحبة، فأصبح كل فرد في المجتمع الغربي في سعيه نحو مصلحته الخاصة يمتنع عن الإضرار بالآخرين فقط إذا كان ذلك يُعظم منافعه، بينما لا يتورع عن ذلك الإضرار إذا ما تعارضت مصالحه الخاصة مع المصلحة العامة، لتنتشر الجريمة والعنف والمادية في العلاقات الإنسانية.
مآلات الرفق والمصلحة في الشرق والغرب
آلت الأخلاق الإسلامية الراقية التي بُعث بها النبي صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتها خُلُق الرفق إلى تأسيس مجتمع إسلامي على أساس روحاني أخلاقي متين، حيث تآزر المسلمون حتى تمكنوا من نشر دعوتهم في سائر الأنحاء، ودخل في الإسلام كثير من الناس بفضل إعجابهم بأخلاق المسلمين وسماحتهم ولينهم في القول والفعل، وضمن المسلمون مقعدهم من التميز دائماً عبر الاستمساك بالرفق والدعوة إلى الله تعالى بخُلق حسن وقلوب لينة، وقد تراجعت تلك الحضارة بقدر ابتعادها عن مكارم الأخلاق وانتشار العنف والفتن والتردي الأخلاقي.
أما القيم الحداثية المرتبطة بالمادية والمصلحية وتعظيم الربح فقد آلت بالأساس إلى غزو غربي واسع النطاق لسائر دول العالم في إمبريالية وحشية لم يسبق لها مثيل في العنف والنهب، ودخلت حملات التبشير بالحضارة الغربية على ظهور الدبابات وأصوات المدافع، ثم تسربت المادة شيئاً فشيئاً حتى سادت العلاقات الإنسانية والاجتماعية فحولتها إلى مسخ، فتحطمت الأُسرة كمنظومة محورية في المجتمع، وعَلَت الانطوائية والوحدة والاغتراب، وظهرت النزعة التشاؤمية حول «نهاية التاريخ»، و«موت الإله»، و«موت الإنسان» في الخطاب ما بعد الحداثي، وذلك كله على الرغم من تحقيق تلك الحضارة -نظرياً- للتقدم المادي والثراء الاقتصادي والتطور التكنولوجي والرخاء على جميع الأصعدة المادية.