عندما عرّف ابن عقيل السياسة بأنّها «ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي»(1) لم يكن يقصد سوى السياسة الشرعية.. وعندما عرف الماورديّ الإمامة بقوله: «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به»(2) لم يكن مصوباً سهمه إلا باتجاه الوظيفة الرئيسة للدولة في الإسلام.
وكذلك جميع من تعرض لتعريف الخلافة كابن خلدون الذي عرفها بأنّها: «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها»(3)؛ فمبنى السياسة على الإصلاح بقدر الإمكان، ووظائف الدولة في الإسلام تنبع وتتدفق من هاتين الجملتين المتصلتين: حراسة الدين، وسياسة الدنيا بالدين، ومن هنا نستطيع أن ندرك دور السياسة الشرعية حيال الذكاء الاصطناعيّ.
لا يستطيع أحد أن يزعم أنّ الذكاء الاصطناعي يمكن أن يقفز خلف أسوار السياسة ومسؤوليات الدولة، وهو -مهما بلغ- ليس سوى تقنيات لا تبرح منطقة الآليات والأدوات، صحيحٌ أنّ الوثبة الأخيرة التي أحدثت طفرة في الذكاء الحاسوبي قد نقلت الإمكانية من مجرد حواسب متقدمة تنفذ البرامج التي تم تخزينها في ذاكرتها إلى أجهزة يمكنها القيام بالتعلم وحل المشكلات، وهو ما دعا العلماء إلى إعادة تعريف الذكاء الاصطناعي بما يتناسب مع الطفرة، من ذلك تعريف «أندرياس كابلان»، و«مايكل هاينلين»: «قدرة النظام على القيام بتفسير البيانات الخارجية بشكل صحيح، والقيام بالتعلم من هذه البيانات، واستخدام تلك المعرفة الناتجة لتحقيق أهداف ومهام محددة من خلال التكيف المرن للآلة»(4)، وإذا كان السكان جميعاً بمن فيهم الولاة والسلاطين لا يمكنهم الخروج من تحت سلطان القانون؛ فمن باب أولى تنسحب سيادة القانون المنبثق من الشريعة على كل ما يمتلكه السكان من أدوات وآليات وتقنيات.
وذلك هو منشأ العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والسياسة الشرعية، فمسؤولية الدولة عن تحقيق الحماية الداخلية والخارجية وتنفيذ القانون وعن حراسة الدين وسياسة الدنيا به تشمل ذلك الميدان، فما كان من عالم الذكاء الاصطناعي بكافّة مستوياته وبجميع مبتكراته محققاً للمصلحة بعيداً عن مخالفة الشرع، فهو جدير بعناية الدولة واهتمامها، وما كان على العكس من ذلك كان باعثاً للدولة إلى التحرك المسؤول للحيلولة دون تسببه في الإفساد وفي الإضرار بالبلاد والعباد.
لا يصح ولا يجوز أن تستعبد الدولة الناس؛ فتحول الشعب إلى مجرد أرقام تجري على شاشات حواسبها، أو مجرد أجرام تدور في أفلاكها، وتحصي عليهم الحركات والسكنات ثم تجازيهم بها بجزاءات تقررها آليات الذكاء الاصطناعيّ، إن مثل هذا المشروع الذي تعتزم بعض الأنظمة تطبيقه وتنفيذه يمثل سحقاً للكينونة الإنسانية، واستعباداً للمجموع البشري، واستهانة بكرامة الإنسان، وعدواناً صريحاً على استقلاله كإنسان، وإنّ حدود تدخل الدولة في تصرفات الإنسان يجب أن تتراجع وتتراخى بما يحفظ للإنسان كرامته وإنسانيته وعبوديته لإله واحد هو الله تعالى.
عدم اقتحام الخصوصيات
حاجة الدولة للرقابة من أجل حماية الأمن العام، وحاجة الأجهزة الرقابية إلى تقنيات تساعدها على القيام بمسؤوليتها لا مراء فيها، بشرط أن تصان الحرمات وتحترم الخصوصيات، أمّا أن تستثمر الدولة طفرة الذكاء الاصطناعي في غزو البيوت وهتك الأستار وكشف المخبوء مما يعد أخصّ خصوصيات الناس؛ فهذا عدوان صريح قد يسلم إلى فقد النظام شرعيته إذا تكرر وصار منهجاً له، ويجب سنّ القوانين في دائرة المصالح المرسلة ومن منطلق قاعدة الاستصلاح، ومن منطلق النصوص الناهية عن التجسس والآمرة بحفظ الحرمات وصون الأعراض.
إن كلمة «لا إله إلا الله» إعلان عام لتحرير الإنسان من الخضوع والعبودية لغير الله تعالى، لم تكن في يوم من الأيام مجرد خروج على عبادة الأصنام وغيرها، لم تكن قط محصورة في ذلك المعنى الضيق إلا في أدمغة الذين لا يدركون من الكلام إلا الألفاظ ولا يحسون من السياق إلا حفيف الحروف، لقد حررت هذه الكلمة العباد من الخضوع للطاغوت كله في أيّ صورة بدا وفي أي سياق أتى؛ ومن هذا المنطلق، ومن منطلق الفطرة التي فطر الله العباد عليها عَدَّ الطاهرُ ابن عاشور الحريّة من مقاصد الشريعة الإسلامية(5)، هذه الحرية التي جاء بها الإسلام قد نادت بها الشعوب وقررتها المواثيق الدولية الكبرى كحق من حقوق الإنسان، فيجب على الدولة صيانة حريات الأفراد، ولا يصح منها أن تقيد حرياتهم في التعبير والاعتراض والتجمع وغير ذلك مستخدمة الذكاء الاصطناعيّ في تتبع حركاتهم وسكناتهم والتنبؤ بتوجهاتهم، فحماية الحريات من صميم السياسة الشرعية.
«لا ضرر ولا ضرار»(6)، هذه القاعدة تنهى عن إحداث الضرر ابتداء، وعن مقابلة الضرر بالضرر انتهاء، وينبثق عنها قاعدة «الضرر يزال»(7)، فما أصاب الناس من الضرر بسبب استعمال الروبوتات الذكية وجب إزالته، ولم يجز إقراره، والدولة مسؤولة عن ذلك، كما أنّه إذا وقع ضرر أو تلف بسبب سوء استعمال هذه الآليات وجب الضمان طالما ثبت التعدي؛ لأنّ القاعدة أنّ «المباشر ضامن وإن لم يتعدّ والمتسبب لا يضمن إلا إذا كان متعدياً»(8)، والضمان يلزم المالك أحياناً، ويلزم الصانع للآلة أحياناً أخرى؛ بحسب ثبوت من المتسبب(9).
والقاعدة الجامعة هي ما نصت عليه المجلة: «التصرف على الرعية منوط بالمصلحة»(10)، أي «أن إنفاذ تصرف الراعي على الرعية ولزومه عليهم شاؤوا أو أبوا معلق ومتوقف على وجود الثمرة والمنفعة في ضمن تصرفه، دينية كانت أو دنيوية، فإذا تضمن منفعة ما وجب عليهم تنفيذه وإلا رُدّ»(11)، وعليه فما كان موافقاً للمصلحة العامّة من نظم الذكاء الاصطناعي وكان منفعة للناس في دينهم أو دنياهم أُقرَّ وحملت الرعية عليه، وما كان بخلاف ذلك لم ينفذ وكان الواجب رده وإبطاله.
الهوامش:
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم، (4/372)، دار الجيل، بيروت ط 1973.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي، ص 5.
(3) مقدمة ابن خلدون، ص 191.
(4) ر: مقال مشاكل الذكاء الاصطناعي وحلولها بموقع المرسال، بتاريخ 24 مارس 2021م.
(5) مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، 3/ 371.
(6) حديث صحيح بمجموع طرقه: أخرجه ابن ماجه (2340)، وأحمد في المسند (23462)، والدارقطني (4597).
(7) مجلة الأحكام العدلية م/20، الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 172، الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 93.
(8) مجمع الضمانات لابن غانم، ص 164.
(9) ر: مجلة الدراسات القانونية العدد (55)، جزء 1 مارس 2،022م ص 53 وما بعدها، بحث الذكاء الاصطناعي وأثره في الضمان في الفقه الإسلامي، د. عبدالرحيم محمد عبدالرحيم.
(10) شرح القواعد الفقهية للزرقا، ص 309.
(11) شرح القواعد الفقهية للزرقا، ص 309.