لم يكن هذا الجيل الذي صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صفوة من خلق الله، اصطفاهم لهذه الصحبة، قلوبهم منيرة، وأنفسهم طيبة، وأرواحهم تسمو لكل خير، ثم إنهم أدوا ما عليهم مما أمرهم الله به ورسوله، ولكن المرحلة التي كان الصحابة عليها بين الجاهلية والرسالة وتغذيتهم بالقيم الإسلامية الجديدة على مجتمعاتهم التي نشؤوا فيها كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصمته الواضحة في شخصية كل واحد من أصحابه، بدءاً من الانتقاء والتبليغ والتوظيف والاستعمال والتغذية القيمية، فضلاً عن البناء النفسي الذي ينتج التغيير السلوكي، وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيبل ذلك 4 أعمدة رئيسة، هي:
1- الإيمان بالله:
تلك النبتة التي غرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه؛ فأزهرت صلابة لا تتزعزع، وقوة في الدين منقطعة النظير، وعقيدة راسخة لا يتسرب إليها ضعف، فكانت لا إله إلا الله صيحة التقوى في القلوب المطمئنة معيار للصوابية في ظل أمواج الفتن المتلاطمة في تاريخ البناء الرشيد.
فكانت أن صمد الصحابة في المعارك والغزوات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقاموا الدولة بعد فواته، فقال أبو بكر الصديق في اليوم الأول لمصيبة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت».
2- تعظيم القرآن العظيم:
ولما كان القرآن هو كلام الله المتعبد بتلاوته المنزل على عباده، فإن مكانته في قلوب الصحابة لا تحدها الكلمات والعبارات، وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقد ورد فيما أخرجه الترمذي عن علي بن أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون فتن»، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحُكْم ما بينكم، وهو الفصل، ليس بالهزل، مَن تركه من جبار قصمه الله، ومَن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، مَن قال به صدق، ومَن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم».
وأخرج الحاكم وغيره، من حديث عبدالله بن عمرو: «من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه، غير أنه لا يُوحى إليه، لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من يجد، ولا يجهل مع من يجهل وفي جوفه كلام الله».
وأخرج أبو يعلى والطبراني من حديث أبي هريرة: «القرآن غنى لا فقر بعده ولا غنى دونه».
3- التضحية:
وأما التضحية، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من ضحى، وأكثر من أعطى، وأصدق من بذل، ثم غرس ذلك في قلوب أصحابه، فقد أخرج الطبراني في «الكبير» بسنده عن الحارث بن الحارث قال: قلت لأبي: ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء القوم الذين اجتمعوا على صابئ لهم، قال: فنزلنا فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل والإيمان وهم يردون عليه ويؤذونه -وفي رواية: فمنهم من تفل في وجهه ومنهم من حثا عليه التراب ومنهم من سبّه- حتى انتصف النهار وانصدع الناس عنه، أقبلت امرأة قد بدا نحرها تحمل قدحاً ومنديلاً فتناوله منها فشرب، وتوضأ ثم رفع رأسه فقال: «يا بنيّه، خمري نحرك ولا تخافي على أبيك»، وفي رواية: «ولا تخشي على أبيك غيلة ولا مذلة»، فقلت من هذه؟ قال: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى البزار بسنده عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وأبو جهل بن هشام، وشيبة وعتبة ابنا ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف، ورجلان آخران كانوا سبعة وهم في الحجر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما سجد أطال السجود فقال أبو جهل: أيكم يأتي جزور بني فلان فيأتينا بفرثها فنكفوه على محمد؟ فانطلق أشقاهم: عقبة بن أبي معيط: فأتى به فألقاه على كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، قال ابن مسعود: وأنا قائم لا أستطيع أن أتكلم وليس عندي منعة تمنعني فأنا أذهب إذ سمعت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت حتى ألقت ذلك عن عاتقه ثم استقبلت قريشاً تسبهم فلم يرجعوا إليها شيئاً، ورفع رسول الله صلى الله عليه رأسه كما كان يرفع عند تمام السجود، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: «اللهم عليك بقريش (ثلاثاً) عليك بعتبة وعقبة وأبي جهل وشيبة»، ثم خرج من المسجد فلقيه أبو البختري بسوط يتخصر به، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنكر وجهه فقال: مالك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خل عني»، قال: علم الله لا أخلى عنك أو تخبرني ما شأنك؟ فلقد أصابك شيء، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير مخل عنه أخبره فقال: «إن أبا جهل أمر فطرح عليَّ فرث»، فقال أبو البختري: هلم إلى المسجد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو البختري فدخلا المسجد ثم أقبل أبو البختري إلى أبي جهل فقال: يا أبا الحكم، أنت الذي أمرت بمحمد فطرح عليه الفرث؟ قال: نعم قال: فرفع السوط فضرب به رأسه، قال: فثار الرجال بعضها إلى بعض قال: وصاح أبو جهل، ويحكم هي له إنما أراد محمد أن يلقي بيننا العداوة وينجو هو وأصحابه.
4- الصبر:
أما عن الصبر، فهو عدة المتقين وذخيرة المؤمنين وسلاح المحسنين، فأي فضيلة أوتيها المرء خير من الصبر، وقد صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى قيل: «متى نصر الله»، وهو قريب، بل كانوا يعايشونه ولكنها المحنة التي تربت على القلوب فتقوي الظهر وترشد النفس إلى منافذ النور.
وقد أخرج البخاري بسنده عن عروة رضي الله عنه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حديثه أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم «أحد»؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبرائيل عليه السلام فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم على ثم قال: يا محمد، فقال ذلك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئاً» (أخرجه مسلم والنسائي).