يتوقف بناء المجتمع على بناء الأسرة؛ فهي سر وجود الفرد، واللبنة الأولى للمجتمع، وإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع والدولة، وقد جعل الله تعالى الأسرة المأوى الكريم الذي هيأه للبشر من ذكر وأنثى، يستقر فيه ويسكن إليه؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21).
حث النبي صلى الله عليه وسلم على بناء الأسرة ويسَّر السبيل إليها، فقال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» (رواه الترمذي)، فهذا توجيه لولي المرأة؛ بأن يقدم صاحب الدين والخلق على غيره ولو كان الأخير أكثر مالاً وأعز جاهاً، وفي المقابل جعل الرسول صلى الله عليه وسلم التزام المرأة وتدينها مفتاح الظفر والاستقرار والسعادة للأسرة الوليدة، فقال صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» (رواه البخاري).
وحرصاً على اقتصاديات الأسرة الوليدة، حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تيسير سبل الزواج، وجعل البركة في البعد عن المظاهر الفارغة، والنفقات الباذخة، والتقاليد البالية، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة» (رواه أحمد).
وحينما ننظر إلى المجتمعات الإسلامية في واقعنا المعاصر نجد إشكاليات أمام الراغبين في الزواج، والعفاف، ووقاية أنفسهم من الحرام، حتى بات الحرام أيسر منالاً من الحلال، وأصبحت العراقيل المادية في طريق الزواج من عوامل تهديد المجتمع بالانحراف الأخلاقي، والحيلولة دون تكوين اللبنة الأولى للمجتمع وهي الأسرة، فالمهور وصلت مبالغ لا يمكن تحملها، والحصول على مسكن وتأثيث بيت الزوجية أصبح فوق طاقة الراغب في الزواج، ووصلت الأمور إلى التباهي بمكان عقد الزواج من فنادق ونوادٍ وقاعات تكلف في بعض الدول ما ينوء المرء بحمله، ويكون من نتيجة ذلك إما العزوف عن الزواج أساساً، أو تحمل تبعاته ديوناً تكوي ظهر الزوج قبل بدء زواجه، وتتحملها الزوجة ضيقاً في معيشتها؛ فتضيق أحوال الأسر، وتتحول سعادتها إلى تعاسة، وقد ينتهي عقد الزواج الغليظ بالطلاق؛ إما للظروف المادية، أو القوانين الجائرة التي سارت وراء النسوية، وفتح الباب للخلع دون ضوابط شرعية، وهذا واقع نلمسه في ارتفاع نسب الطلاق بالدول العربية.
فمصر، على سبيل المثال، تتصدر الدول العربية في حالات الطلاق؛ إذ تتردد نحو مليون حالة سنوياً على محاكم الأسرة، وتقع 240 حالة طلاق يومياً بمعدل 10 حالات طلاق كل ساعة، حسب تقرير صدر عن مركز معلومات مجلس الوزراء المصري، إلا أن مصر تحتل المركز الثاني بين الدول العربية من حيث نسبة الطلاق إلى إجمالي الزيجات، حيث ارتفعت نسب الطلاق خلال نصف القرن الأخير من 7% إلى 40%، ووصل عدد المطلقات إلى 3 ملايين مطلقة، وتحتل الكويت المركز الأول في نسب الطلاق، رغم انخفاض عدد سكانها مقارنة بمصر، حيث ارتفعت نسبة الطلاق فيها إلى 48% من إجمالي عدد الزيجات، حسب إحصاء نشرته وزارة العدل الكويتية.
ويأتي في المركز الثالث والرابع الأردن وقطر، حيث ارتفعت بهما نسب الطلاق إلى 37.2% و37% على التوالي، ويأتي بعدهما كل من لبنان والإمارات بنسبة 34% في كل منهما، ثم يأتي بعد ذلك السودان بنسبة 30%، والعراق بنسبة 22.7%، ثم السعودية بنسبة 21.5%.
ومن جانب آخر، فإن العنوسة بلغت مبلغاً بالدول العربية يمثل خطورة للأسرة والمجتمع، لا سيما في ظل البطالة والفقر، فتأخر سن الزواج له تبعات يفتح باب الانحرافات السلوكية والظواهر الشاذة والتطرف النفسي والتهرم السكاني وتقلص الأجيال القادمة، وقد كشف مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث (CSRGULF) عن نسبة العنوسة في الدول العربية؛ حيث جاء لبنان في المرتبة الأولى خلال السنوات الثماني الأخيرة بنسبة 85% من نسبة الإناث فوق سن 35 عاماً، تلته تونس بنسبة 81%، فالعراق بنسبة 80%، فالإمارات بنسبة 75%، فسورية بنسبة 70%، فالمغرب بنسبة 60%، فالأردن بنسبة 55%، فالجزائر بنسبة 51%، فمصر بنسبة 48%، فالسعودية وليبيا بنسبة 35% لكل منهما، وقطر بنسبة 30%.
المودة والرحمة
إن هذه الأخطار للأسرة والمجتمع تحتم على الدولة ومؤسسات المجتمع المدني القيام بدورهما في رفع الوعي بقيمة الزواج ومسؤوليته، ووضعه في إطاره الشرعي بعيداً عن تحميل الشباب ما لا طاقة لهم به، ونزع الفكر النسوي البغيض الذي يمثل عقبة أمام ذلك، فالمودة والرحمة هما أساس البيت الصالح، وبهما يتسع البيت بسعتهما مهما كان ضيق مساحته، ويضيق بفقدانهما مهما بلغت درجة اتساعه، فما أحوجنا إلى تطبيق سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإرشاداته في الزواج.
وقد كان زواجه صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها مثلاً يُحتذى به، فقد طلبته زوجاً لها وهي التي يتكالب عليها السادة للزواج فتأبى، وتحولت شراكتهما التجارية إلى شراكة زوجية أيضاً، وخطب عمه أبو طالب في خطبة زواجه قائلاً: «إن محمداً لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً، وإذا كان في المال قل، فإن المال ظل زائل وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك»، وقد أصدقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة (الأنثى من الإبل إذا طلع نابها في السنة الثامنة أو التاسعة)، وكان عمره 25 عاماً وعمرها 40 عاماً، وهي أول امرأة تزوجها ولم يتزوج غيرها حتى ماتت وعمرها 65 عاماً كانت فيها محل التكريم والإعزاز، وبيتها محل المودة والرحمة، ومالها في خدمة زوجها، ويكفي ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عنها: «إني رزقت حبها» (رواه مسلم).
كما كان زواج ابنته فاطمة رضي الله عنها من ابن عمه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه نموذجاً للانضباط والتيسير الاقتصادي، فقد كان صداقها درْعاً لعليّ قد أهداه له الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل ولم يكن يمتلك شيئاً غيره، أما عن وليمة زواجه فقال عنها: «لما أردت أن أبتني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم واعدت رجلاً صواغاً من بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه إلى الصواغين وأستعين به في وليمة عرسي»، وكان جهازهما ما بعثه لهما النبي صلى الله عليه وسلم من «خميلة ووسادة من أدم حشوها ليف ورحيين وسقاء وجرتين» (رواه أحمد).
وما أحكم وأروع ميزان الزواج في رد عمر بن عبدالعزيز على الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان حينما أراد أن يزوجه ابنته فاطمة وسأله: يا عمر، ما نفقتك؟ فقال: حسنة بين سيئتين، وتلا قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان: 67).