يقول مثيرو هذه الشبهة: كيف لدين يدَّعي أصحابه أنه دين الرحمة والتسامح وعدم الإكراه على الدخول فيه، يفرض إتاوة على غير المسلمين ويخيرهم عند الرفض بين الإسلام أو القتل؟!
ويدَّعي هؤلاء أن قول الله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29)، ما هو إلا صورة من صور الظلم والقهر والإذلال لغير المسلمين!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
لبيان بطلان هذه الشبهة لابد لنا من توضيح عدة جوانب على النحو التالي:
أولاً: تعريف الجزية
الجزية في اللغة: مشتقة من مادة «ج ز ي»، تقول العرب: «جزى، يجزي، إذا كافأ عما أسدي إليه»(1).
وفي الاصطلاح: اسم لما يؤخذ من أهل الذمة بالتراضي لإسكانهم في ديارنا، وحقن دمائهم وذراريهم وأموالهم، والكف عن قتالهم(2).
ثانياً: الجزية قبل الإسلام
لم يكن الإسلام بدعاً بين الأديان، كما لم يكن المسلمون كذلك بدعاً بين الأمم حين أخذوا الجزية من الأمم التي دخلت تحت ولايتهم، فإن أخذ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أشهر من علم، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
وقد أثبت «العهد الجديد» هذه الصورة حين قال المسيح عليه السلام لسمعان: «ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس: من الأجانب قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار» (متى 17-25).
والأنبياء عليهم السلام حين غلبوا على بعض الممالك بأمر الله ونصرته أخذوا الجزية من الأمم المغلوبة، بل واستعبدوا الأمم المغلوبة، كما صنع النبي يشوع مع الكنعانيين حين تغلب عليهم؛ «فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر فسكن الكنعانيون في وسط إفرايم إلى هذا اليوم وكانوا عبيداً تحت الجزية» (يشوع 16/10)، فجمع لهم بين العبودية والجزية.
وأمر المسيح أتباعه بدفع الجزية للرومان، جاء في إنجيل متى: «فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلاَمِيذَهُمْ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ بِالْحَقِّ، وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، فَقُلْ لَنَا: مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ: لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟ أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ، فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَارًا فَقَالَ لَهُمْ: لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟ قَالُوا لَهُ: لِقَيْصَرَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ» (متى16/ 22-21)
فالجزية ليست بدعة إسلامية، بل أمر عرفته البشرية واعتادت عليه منذ فجر التاريخ، وهذا ما أقره الكتاب المقدس لدى النصارى فلماذا إذن الاعتراض عليه(3)؟!
ثالثاً: الجزية في الإسلام
الإسلام كعادته لا يتوقف عند ممارسات البشر السابقة عليه، بل يترفع عن زلـلهم، ويضفي خصائصه الحضارية، فقد ارتفع الإسلام بالجزية ليجعلها لا إتاوة يدفعها المغلوبون لغالبهم، بل لتكون عقداً مبرماً بين الأمة المسلمة والشعوب التي دخلت في رعايتها.
عقد بين طرفين، ترعاه أوامر الله بالوفاء بالعهود واحترام العقود، ويوثقه وعيد النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخل به، وتجلى ذلك بظهور مصطلح أهل الذمة، الذمة التي يحرم نقضها ويجب الوفاء بها ورعايتها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أمر الله بأخذ الجزية من المقاتلين دون غيرهم كما نصت الآية الكريمة على ذلك: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).
قال القرطبي: «قال علماؤنا: الذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين.. وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني»(4).
وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الجند: «لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي»(5).
رابعاً: التحذير من ظلم أهل الذمة
أمر الله تعالى في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم في حديثه بالإحسان لأهل الذمة «الجزية» وحسن معاملتهم، وتحرم الشريعة أشد التحريم ظلمهم والبغي عليهم، فقد حثّ القرآن على البر والقسط بأهل الكتاب المسالمين الذين لا يعتدون على المسلمين؛ (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8).
وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم، فقال: «من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة»(6).
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن قَتَلَ مُعاهَدًا لم يَرَحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ، وإنَّ ريحَها تُوجَدُ من مسيرةِ أربَعينَ عامًا»(7).
وقدم الإسلام ضمانات فريدة لأهل الذمة، لم ولن تعرف لها البشرية مثيلاً، ففي مقابل دراهم معدودة يدفعها الرجال القادرون على القتال من أهل الذمة، فإنهم ينعمون بالعيش الآمن والحماية المطلقة لهم من قبل المسلمين علاوة على أمنهم على كنائسهم ودينهم، وقد تجلى ذلك في وصايا الخلفاء لقادتهم، كما أكدته صيغ الاتفاقات التي وقعها المسلمون مع دافعي الجزية.
وقد خشي الخلفاء أن يقصر المسلمون في حقوق أهل الذمة، فتفقدوا أحوالهم، ومن ذلك ما رواه الطبري في تاريخه، في سياقه لحديث عمر إلى وفد جاءه من أرض الذمة، قال عمر رضي الله عنه للوفد: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم؟ فقالوا: ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة(8).
خامساً: صورة ناصعة من معاملة المسلمين لأهل الذمة
روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من أصحاب السير عن مكحول أن الأخبار تتابعت على أبي عبيدة بجموع الروم، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبو عبيدة لكل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج، وأن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم(9).
ولا يتوقف حق أهل الذمة على دفع العدو عنهم، بل يتعداه إلى دفع كل أذى يزعجهم، ولو كان بالقول واللسان، يقول القرافي: «إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام»(10).
سادساً: شهادة المؤرخين الغربيين
لعل البعض من مثيري هذه الشبهة يدَّعي أن المسلمين لم يحققوا هذه المثُل العظيمة، وهنا نسوق لهم شهادة واحدة من شهادات كثيرة لمؤرخين غربيين.
يقول ولديورانت(11): «لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زيّ ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص باختلاف دخله، وتتراوح بين دينارين وأربعة دنانير، ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء والشيوخ، والعجزة، والعمى الشديد والفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية، ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها اثنان ونصف في المائة من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم..»(12).
فهل بعد ذلك يحق لأحد من مثيري هذه الشبهة أن يتطاول على الإسلام ويدَّعي أنه أذل أهل الذمة؟!
_______________________
(1) مختار الصحاح (1/ 44).
(2) الموسوعة الفقهية، الكويت، 15/ 150.
(3) المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام، علي بن نايف الشحود، 1/ 410.
(4) الجامع لأحكام القرآن (8/ 72).
(5) إرواء الغليل، رقم (1255).
(6) رواه أبو داود في سننه، ح (3052) في (3/170)، وصححه الألباني
(7) أخرجه البخاري (3166).
(8) تاريخ الطبري (2/503).
(9) فتوح البلدان، المؤلف: أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري، المحقق: عبد الله أنيس الطباع، 1/ 210-211.
(10) الفروق (3/ 14).
(11) ويليام جيمس ديورانت (1885 – 1981) فيلسوف، مؤرخ وكاتب أمريكي من أشهر مؤلفاته كتاب قصة الحضارة.
(12) قصة الحضارة (12/ 131).