لم تكن الأحداث التي يمر بها العالم الإسلامي الآن أصداء عادية يمكن للمرء أن يتجرع فيها ألماً قد تعود عليه، بل هي نكسات صعبة على هذا الجيل، وربما لم تتعرض الصحوة الإسلامية لهجمة شرسة مثلما تتعرض اليوم، هجمة اختصت بعداء ظاهر وتحد قادر على أن يفرض إرادته، لكن هذا كله وإن ساهم في معرفة جيل الصحوة بموقع القدم وطبيعة المستقبل فإنه لا يدفع إلى اليأس، هل يمثل ذلك وجهة نظر أم أنه متوافق مع السنن الإلهية؟
التقيت بالداعية والمفكر الإسلامي د. يوسف القرضاوي بعد زياراته لعدد من الدول والجاليات الإسلامية في أنحاء مختلفة لأستطلع رؤيته وسط هذه الأحداث، فقال:
– ما يخشى من هذه الأحداث أن تخمد الجذوة في نفوس الناس، وأن يتسرب اليأس إلى القلوب، ويفقد الناس الرجاء في المستقبل، وهذا أخطر شيء على الصحوة والعمل الإسلامي، ينبغي دائماً ألا نركز على الحوادث السلبية وننظر إلى الأمر بمنظار أسود، بل نبرز الجوانب الإيجابية والمبشرات، وهي كثيرة.
هل يوجد، في نظركم، ما يوازن بين هذه الجوانب والأخرى المظلمة؟
– إذا ذكرنا الضحايا الذين يسقطون في البوسنة والهرسك والعدوان الكرواتي ووراءه الروس والغرب، فيجب أن نذكر صمود البوسنيين الباسل وما صنعوه للحفاظ على شخصيتهم الإسلامية ومحاولتهم المستميتة للبقاء حتى استطاعوا أن يزرعوا الخضراوات بدلاً من الزهور في الشرفات، ويصنعوا من علب الصفيح أدوات المطبخ، وأن يصنعوا الأسلحة داخلياً، وأن يجعلوا من سراييفو قلعة للدفاع على طوال ستة عشر شهراً، سقطت عليها القذائف من كل جانب، لكنها لم تستسلم.
هذه الجوانب الإيجابية ينبغي أن نبرزها حتى نزرع الأمل في قلوب أبنائنا من هذا الجيل، ونبين لهم أن هذه الهجمة الصليبية الجديدة ستبوء بالخيبة والإخفاق كما باءت الهجمة الصليبية التاسعة القديمة، وسيظهر قطز، وصلاح الدين، ومثلهما من جديد، ليقودوا الركب الإسلامي والجهاد الإسلامي، فطبيعة الإسلام خصبة ولود، لا تعقم أرحامها عن إنجاب الأبطال.
لكن العداء صار واضحاً والهجمة شرسة، ولا تمثل أمراً متكرراً، فلم يكن اجتماع الأعداء على شيء قدر اجتماع عدائهم للأمة الإسلامية وصحوتها دون أن يحيطوا ذلك بأي غلاف كما هو الأمر سابقاً، ما رأيكم؟
– لقد جاءت الهجمة على قدر قوة الصحوة، وحينما كان الإسلام نائماً والعملاق في قمقمه محبوساً راكداً لم يتحرك هؤلاء بمثل هذه القوة، فهذه الحركة القوية الشرسة المتكتلة التي جمعت بين القوى المختلفة من صهيونية غادرة وصليبية ماكرة ووثنية فاجرة، وجمعت كل المذاهب المسيحية؛ الأرثوذكس، والكاثوليك، والبروتستانت.. الذي جمع هؤلاء في الحقيقة هو القوة التي أرعبتهم وظهرت في هذه الصحوة الإسلامية التي امتدت شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً في البلاد الإسلامية وخارج البلاد الإسلامية والجاليات والتجمعات، وظهرت في مظاهر مختلفة جهاداً في أفغانستان وفي الفلبين وفي جنوب السودان.. كما تمثلت في بنوك ومؤسسات اقتصادية إسلامية تحررت من الربا والمعاملات المحظورة، وتجلت في هذه الأمواج الكاسحة من الشباب والشابات الذين عادوا إلى الإسلام طوعاً واختياراً، لا مجرد عاملين به، بل داعين إليه وغيورين عليه، ومجاهدين في سبيله، حتى إن البلاد التي عاشت تحت وطأة الاستعمار عقوداً طويلة من السنين استطاعت أن تتحرر منه، وأن تعود إلى الإسلام من جديد أقوى ما تكون وأظهر، كما وضح ذلك في “جزائر الصحوة”، حتى البلاد والقرى التي عاشت تحت السلطة الصهيونية منذ عام 1948م، وحسبوا في وقت من الأوقات أنها ذابت في المجتمع “الإسرائيلي”، تصحو فجأة من ثبات وتحيا من موات، وتستيقظ على صوت الإسلام الذي يُنشئها خلفاً آخر ويغرس فيها روح القوة وقوة الروح، فإذا هي مارد مخيف لـ “إسرائيل” ومن وراء “إسرائيل”.
كل هذا جعل القوى المعادية للإسلام، وما أكثرها، تتوجس خيفة من هذا العملاق، وتتذكر ماضيه الذي كان فيه صانع الحضارة وسيد العالم القديم، ومن هنا كادت كيدها ومكرت مكرها لتقطع الطريق على هذه الأمة اسماً وشكلاً، وإن كانوا غرباء عنها فكراً وروحاً وجوهراً، فغدوا يضربون الأمة بعضها ببعض، وهم يتفرجون عليها قريري العين.
مع كل هذا المكر وذلك الكيد، كيف ترون المستقبل أمام الأمة الإسلامية؟
– إننا مطمئنون إلى أن هذا كله سينقشع، وسيهزم نور الفجر ظلام هذا الليل، وقد تعلمنا من سنن الله أن أحلك ساعات الليل سواداً هي الساعة التي تسبق الفجر، ثم ينكشف برقع الليل عن محيا الصباح، ويحمد القوم السري وإنا لهذا النهار لمنتظرون، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وصدق الله العظيم: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) (الأنبياء: 18)، (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الإسراء: 81).
_____________________________________
العدد (1072)، ص 21 – بتاريخ: 11 جمادى الأولى 1414هـ – 26 أكتوبر 1993م.