العلاقة بين المربي ومريديه تنظمها عدة مبادئ تربوية، وبقدر تحقق هذه المبادئ في المربي واصطباغها في شخصيته يكون الأثر في قلوب المتربين، لينعكس على سمتهم العام سلوكا سويا وخلقا حسنا، ومن هذه المبادئ حفظ خصوصيات المريدين، ومراعاة الفوارق الفردية بينهم، والاستغناء عن الناس، والتفاؤل وحسن الظن بالله الحنان المنان، وفتح باب الرجاء للمتربين، والتخفيف من الأحزان، مع طلاقة الوجه وفصاحة اللسان، وإبراز حسنات المتربين وعلمهم، وتقديم النصيحة لهم، ليكون المربي قدوة حسنة في صمته وكلامه، وفي رضاه وغضبه، وفي علمه وعمله. ولعل من أبرز هذه المبادئ أن يتحلى المربي بزاد إيماني متجدد.
وحديثنا في هذا المقال حول الزاد الإيماني للمربي وأثره في المتربين.
استفادة المربي من التربية:
إن أهمية التربية وآثارها في صلاح المجتمعات واستقرارها لا تغيب عن إدراك عاقل، إلا أن أكثر المستفيدين من ممارسة التربية بشكل مباشر هم المربون والمتلقون؛ فالمربي كالمتلقي ينتفع انتفاعا عظيما من ممارسته لهذه الوظيفة؛ فالتربية يعود نفعها على المربي والمتربي، فكلاهما مستفيد من الآخر، وهذا ابن القيم يوضح ذلك في فائدة نفيسة قيمة –في كتابه القيم “الفوائد”- ينصح فيها المربين مبينا مقدار ما يجنون من وظيفتهم في التربية فيقول: “أنفع الناس لك رجل مكّنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرا، أو تصنع إليه معروفا؛ فإنه نِعم العون لك على منفعتك وكمالك؛ فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر”.
الميدان الأول:
الحياة الدنيا متاع مؤقت، والعاقل لا يجعلها هدفًا وغايةً ينسى من خلالها الهدف الذي من أجله خلقه الله تعالى؛ فالحياة الأخرى هي دار البقاء والخلود، والحياة الدنيا هي دار الفناء والخراب؛ فلا يستقيم بيع الأولى بالأخرى، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: ٨٦]، وما أجمل قول أبي الفتح البستي في هذا المعنى:
يا عامرًا لخراب الدار مجتهدًا *** بالله هل لخراب العمر عمران؟
ومن أراد الفوز والنجاة يبدأ بنفسه التي بين جنبيه أولا، يجتهد في تزكيتها فـ{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}، وإن من مبادئ التربية الأساسية أن يهتم المربي بحاله مع ربه؛ فيعطي وقتا لنفسه، فيرعاها ويزكيها باليقين الصادق والعبادة الصحيحة، فيهتم بكل ما يسمو بروحه ويقربه من ربه؛ لأن فلاحه في تربية إخوانه يقوم أساسا على نجاحه في ميدان نفسه، وقد أدرك الإمام حسن البنا هذه الحقيقة فكان من توجيهاته: «ميدانكم الأول أنفسكم، فإذا انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم فى جهادها كنتم على سواها أعجز، فجربوا الكفاح معها أولاً» (البنا، كتيب “إلى الشباب وإلى الطلبة خاصة).
فلا يمكن أن تحسم معارك الميدان قبل حسم معارك الوجدان، وإن السبيل لكسب معارك الوجدان يجب أن يمر عبر التربية الإيمانية؛ فهي أول ميادين تربية النفس، وهي المحرك لكل خير، والدافع لكل رشد، بها يصفو الباطن فينصلح الظاهر، قال عبدالله بن المبارك: “ما رأيتُ رجلاً ارتفعَ كمالك بن أنس، ليس له كثير صيامٍ ولا صلاة، وإنما كانتْ له سريرة” (سير أعلام النبلاء)، وقال ابن الجوزي: “فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح الظاهر” (صيد الخاطر).
لا عطاء بدون زاد، وخير الزاد التقوى:
التربية وظيفة الأنبياء والمرسلين؛ فمن خلالها تنتقل المعرفة والسلوك، وتُبنى المهارات، وتُزکى النفوس. وهذه العلاقة الرسالية (بين المربي والمتربي) بحاجة إلى مددٍ يقويها، وزادٍ يمد المربي بالتزکية والإلهام، وأهم زاد يبلّغ المربي کماله التربوي هو تقوى الله، والاستعانة به، والالتجاء إليه، والاعتصام بحبله، قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ} [البقرة: 197]، فلا يستطيع المربي ممارسة العطاء المستمر لطلابه دون زاد مستمر لنفسه، زاد علمي ومهاري، وآخر إيماني تعبدي، والبناء الإيماني والتعبدي للمربي يسهم في تكوين الشخصية الربانية التي يتعلق قلبها بخالقها، ولا تنخدع بزخارف الدنيا ومباهجها ومناصبها وألقابها، ويعين في ذلك الإكثار من العبادات والنوافل بخشوع وخضوع، وكثرة الذكر والدعاء، وتلاوة القرآن وتدبر آياته؛ لتكتمل شخصية المربي وتتحلى بالعواصم من القواصم، فتعصمه من سبل الانحراف الفكري والخلقي، وهذه العواصم أربعة: دين مهيمن، وعلم نافع، وعقل سوي، وخلق حسن.
واعلم أن الزاد الإيماني مبنيّ على الزاد العلمي؛ فالطريق لا تُضيء معالمه إلا بالعلم، وبقدر التزود منه تزداد الإضاءة، وتتضح الرؤيةُ، ويسهل المضيّ، ورأسُ هذا العلم: فهْم كتابِ الله على الوجه الصحيح وتدبّره، مسترشدا بما صح من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي التطبيق العملي لأحكام الشريعة، واعلم أن كتاب الله من أعظم ما يبصّرك ويزيدك إيماناً، ويعلّق قلبَك بالملكوت الأعلى، ولو أن كل معلّمٍ أخذ على نفسه تربيةَ نفسه بطريقة السلف؛ بتعلُّم عشر آيات كل مرة لا ينتقل إلى غيرها حتى يعمل بمقتضاها، لو فعلنا لرأينا العجَبَ العجاب في أثر ذلك على المعلّم ثم على طلابه بالضروة. هكذا كانوا فتأثروا وأثروا، قال ابن الجوزي: «لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبة: العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه»، وقال جماعة من السلف منهم الشعبي ووكيع: «كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به» (صيد الخاطر).
همسة الختام:
المربي أولى الناس بالاتصاف بحسن السمت والأدب، وموافقة العلم للعمل؛ إذ إنه القدوة لمن يربيهم، وقدوة المرء من تسنن واقتدى به، ولنرفع شعار سيدنا شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، ولنحذر غضب الله فقد قال: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].
نسأل المولى عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.