لا سعادة للإنسان إلا بمعرفة الله جل في علاه والقيام بحقه الذي نوَّه به في أول نداء من كتابه بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 21).
والطريق إلى معرفة ربنا سبحانه ومعرفة حقه ومعرفة كيفية القيام به على ما هو مطلوب هو: رسله وأنبياؤه صلى الله عليهم وسلم، فهم سفراؤه -عز ذكره- إلى خلقه، وهذه هي الغاية من إرسالهم، وهذه الغاية تشتمل على جملة من الأهداف، يأتي في مقدمة هذه الأهداف:
1- هداية الخلق إلى ما يحبه الله تبارك وتعالى وما يبغضه فيعمل الخلق بالأول، ويحرصون عليه، ويتركون الثاني ويتجنبونه، كما قال ربنا سبحانه: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (الرعد: 7)، (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {52} صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ) (الشورى)، وهذه الهداية هي هداية الإرشاد والبيان، أما هداية التوفيق والتثبيت فلا يملكها إلا الله تبارك وتعالى، كما قال عز شأنه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56).
2- إقامة الحجة على الخلق، فبعث الله عز وجل النبيين مبشرين ومنذرين إلى خلقه ليقطع العذر، فلا يقولوا: ما أرسلت إلينا رسولًا، قال ربنا سبحانه: (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء: 165)، (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: 15)، وبهذا يحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بيّنة، فلا يقول أحد يومًا إذا أهلكهم الله بعذاب من قبل أن يرسل إليهم الرسل وينزل عليهم الكتاب: لو جاؤونا لآمنَّا؛ (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى {134} قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) (طه).
3- بيان القدوة العملية للمنهج الذي جاء به الأنبياء والرسل من العقائد والشرائع والأخلاق حتى يحذو الناس حذوها ويتأسوا بها، قال ربنا وهو أصدق القائلين: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90)، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب: 21)، ولهذا لما بعث الله الرسل بعثهم من البشر وبعثهم من أممهم وأقوامهم ولم يبعثهم من الملائكة أو من البشر الغرباء عنهم، حتى يستطيعوا النظر إليهم ورؤية أعمالهم وسماع أقوالهم والاقتداء بهم في ذلك كله، وهم مع هذا يعيشون معهم في نفس ظروفهم ويتمتعون بنفس القدرات التي لهم.
وفي حديث سعد بن هشام قال: قلت: يا أم المؤمنين –عائشة رضي الله عنها- حدثيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: «ألست تقرأ القرآن؟ فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن».
وعنها رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي؛ يتأول القرآن»، يعني: يفعل ما أمر به فيه، فيتأول ما جاء في القرآن من الأمر بالتسبيح والاستغفار في نحو قوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) (النصر: 3).
4- تزكية النفوس وتطهيرها، كما قال ربنا سبحانه وتعالى عن دعاء خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم لنا: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (البقرة: 129)، وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2)، ومن هنا كان كل رسول يدل أمته على ما به تقواها وما به فجورها؛ لتحرص على الأول وتأخذ نفسها به فتفلح وتكون من أهل الجنة، وتحذر الآخر وتبتعد عنه فلا تخيب وتكون من أهل النار.
وفي الحديث عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنه ليس شيء يقربكم إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم إلى النار إلا قد نهيتكم عنه».
5- الإخبار بالغيبيات، فإنه لا اطلاع لأحد على الغيب إلا بإذن الله عز وجل وذلك ما يأتي على ألسنة الرسل، كما قال الله عز وجل: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً {26} إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً {27} لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (الجن)، فالرسل هم الذين يخبروننا عن الله جل ذكره وعن أسمائه الحسنى وصفاته العلا وأفعاله العظيمة، ويخبروننا عن الملائكة، وعن اليوم الآخر وما فيه من جنة ونار، وعن كل شيء غاب عنا ومعرفته مما يفيدنا وينفعنا ولا يمكن التوصل إليه إلا من خلال الرسل صلى الله عليهم وسلم.
ومثل هذا الأسئلة الكبرى في حياة الناس: من أين أتيت، وإلى أين أذهب، ولماذا أحيا، وكيف النجاة وبماذا؟ هذه الأسئلة الخالدة المصيرية التي تسكن الإنسان -كل إنسان- وتلح عليه ويلتمس إجابتها: لن يجيب عنها بحق وصدق وإخلاص ورفق ورحمة إلا الرسل.
هذه الأمور الخمسة ضرورات للخلق في الحياة وفي الممات ولا يقوم بها إلا الرسل، لهذا كانت الرسالة روح العالم ونوره وحياته وأمانه وصلاحه وسعادته، وكانت حاجة الخلق إليها أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب والهواء وسواها من سائر الأشياء.
كانت هذه الحكمة من إرسال الرسل، وقد بعث ربنا سبحانه وتعالى لأجل تحقيقها عددًا كبيرًا من المرسلين، اصطفى الله تبارك وتعالى أنبياء ورسلًا كثيرين منهم من أخبرنا خبره وقص علينا قصته ومنهم من لم يخبرنا ولم يقصص علينا.
وجملة عدد الأنبياء جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، وأن عدد الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر»، ومن عجائب هذا العدد -فيما تأملته- أن عدد الأنبياء قريب من عدد الصحابة، وأن عدد الرسل منهم قريب من عدد أهل بدر من الصحابة، والله أعلم.
وكان الله عز سلطانه يرسل في كل أمة رسولًا، وربما كان في الزمان الواحد رسولان: إبراهيم ولوط، موسى وهارون، وربما أكثر: يحيى وعيسى وزكريا.
وربما تابع سبحانه وتعالى بين الأنبياء بلا انقطاع كما كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وربما جاء اللاحق بعد فترة وانقطاع من السابق كما في بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، قال ربنا جل في علاه: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة: 19).
ومن أولى دلائل بعثة هذا العدد من الرسل إلى أهل الأرض، وليس رسولًا واحدًا: أن الناس ينسون، وأن الشرائع تمحى وتدرس، وأن الدنيا تتجدد وقائعها وتتنوع وتتوسع.