يشيع في أروقتنا الفكرية وأحاديثنا الثقافية الإشارة إلى «الوسطية» باعتبارها موقفاً مرغوباً فيه ومتطلعاً إليه، فالوسطية مفهوم رائج ومنهج متبع، يبتغي به أصحاب الفكر والقلم تحقيق موقف فكري يفيد من سائر الاتجاهات والآراء ولا ينغمس فيها كلياً، ومن خلال الوسطية يسعى المثقفون نحو خلق أفكار جديدة خالية من التطرف والغلو.
والوسطية قد تبدو للوهلة الأولى واضحة جلية؛ إذ هي؛ اصطلاحاً وشيوعاً بين الناس، تعني الوقوف على مسافة واحدة من جميع الآراء والاتجاهات، وتكوين وجهة نظر تأخذ من الجميع ولا تنتمي إلى أحد كلياً، وهي بهذا المعنى قد ترادف الحياد، لكنها في الحقيقة قد لا تكون كذلك.
فالوسطية في اللغة العربية مشتقة من كلمة وسط؛ وهي تعني العدل، فتوسط أحدهم بين الناس أي صار بينهم بالعدل، وأوسط الناس شرفاً تعني أعلاهم وأفضلهم، ووسط الشيء هو اعتداله، واصطلاحاً قدم أفلاطون العدالة بأنها وسط بين رذيلتين، فالوسطية هاهنا لدى أفلاطون تعني العدل بين نقيضين وموازنتهما لتحقيق الأفضل.
أما القرآن الكريم فيشير قول الله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143) إلى الوسطية بمعنى العدل، إذ يقول ابن كثير في تفسيره للآية: إن أمة وسطاً تعني العدل، وتتجلى عدالة الأمة في شهادتها على رسالة الأنبياء يوم القيامة حين ينكر الأقوام السابقون أنبياءهم، فيشهد المسلمون بالرسالات ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أمة الإسلام.
من هنا نستنتج أن الوسطية في حقيقتها ميزان العدل والاعتدال الذي يوازن بين الأطراف المتضادة، فيؤلف منها موقفاً وسطاً يستنبط الأفضل والأكثر نفعاً، ويعدل فيما بين الآراء ليحكم فيما يتنازعها من خلاف، فيفصل بينها ويُشكل بتوازنه منهجاً وسطياً.
لماذا الوسطية؟
يقودنا البحث والتأمل في فكرة الوسطية لدينا في العالم العربي والإسلامي أن نبدأ أولاً بالتساؤل حول دعوى الوسطية، لماذا علينا أن نبحث عن الموقف الوسط، وفيما بين أي الأطراف يجدر بنا أن نتوسط، وكيف نشأت إشكالية الوسطية في حياتنا الفكرية؟
فالوسطية ذات أوجه متعددة تتجلى في حياتنا الفكرية، فهي من ناحية تشير إلى الإسلام باعتباره ديناً وسطاً فيما بين الثنائيات المتطرفة التي سادت الأديان السابقة، فهو لم يستغرق في الروحانية الرهبانية الخالصة، ولا نزل إلى الساحة الدنيوية بكامل عناصره، بل اتخذ موقفاً وسطاً لا يجعل اتباعه ينغمسون في الحياة الدنيا وينسون أخراهم، ولا هو طالبهم بالتعبد الزاهد المتعالي على المصالح الدنيوية.
كذلك تتجلى وسطية الإسلام في التوازن والاعتدال التشريعيين، فالهدي النبوي يُقدم عديداً من المواقف والدلالات التي تحض على الوسطية، فعن عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم «ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً»، إذ جاء التشريع الإسلامي بالتوازن والاعتدال متوسطاً فيما بين الغلو والتهاون أو الإفراط والتفريط.
الغزو والتغريب
أما على الصعيد الفكري، فقد بدأت دعوات الوسطية حين فرض الغرب نفسه على العالم الإسلامي منذ موجات الاحتلال الأولى، وقد تشكلت نتيجة لذلك الغزو الغربي –عسكرياً وثقافياً في الوقت نفسه – ثلاثة اتجاهات من المواقف الفكرية؛ الأول: هو اتجاه الانكفاء على النفس الذي تشدد في رفض كل ما هو غربي، بل واعتبر الأخذ من ذلك الغرب المُغتصب خيانة، فارتد على أدباره باحثاً في التراث الإسلامي عن إجابات قديمة لأسئلة جديدة، وأخذ يتكئ على التراث باعتباره منبع الحكمة الوحيد رافضاً كل تجديد يأخذ في الاعتبار تجارب الأمم والحضارات المعاصرة.
أما الاتجاه الفكري الآخر، أو بالأحرى المضاد: فهو اتجاه التغريب، إذ انغمس أصحاب ذلك التوجه في الغرب كلياً نتيجة الانبهار الشديد بحداثته وعصريته وتقدمه، فأصبح الأخذ بذلك النموذج الغربي الحل الوحيد والأمثل لدى هؤلاء لتحقيق التقدم؛ إذ صار التقدم والتغريب لدى هؤلاء واحداً، فلم يعد لديهم أي إمكانية لتحقيق نهضة عربية إسلامية دون التماهي مع الغرب، فالغرب كتجربة حداثية نهضوية منظومة متكاملة يجدر بنا الأخذ بها كاملة على علاتها لكي نحقق ما حققوه، ونرفض كل ما يميز هويتنا لأنه قديم ورجعي ولا يمكن تحقيق أي نهضة باستخدامه.
بين ذلك النزاع حامي الوطيس بين الحداثيين والتراثيين ظهر اتجاه الوسطية، وبدأت دعاوى بين هذا التيار وذاك للتقريب فيما بين الرؤيتين التغريبية والتراثية، وبدأت الدراسات عن الوسطية وكيفية اتخاذ موقف وسط يضمن للحضارة الإسلامية الذب عن هويتها والاحتفاظ بمكوناتها الأصيلة دون الإعراض كلياً والرفض المُطلق للغرب باعتباره شراً مستطيراً.
لكن كثيراً من تلك المحاولات الوسطية كانت في مضمونها بعيدة عن الاعتدال والتوازن، إذ عمدت كثير من الآراء الوسطية إلى التوفيق الأقرب إلى التلفيق، أو التجميع الحسابي فيما بين الحضارتين دون منهجية حقيقية، تأخذ في الاعتبار ما يجب أخذه من كل تيار وما يجب رفضه، فأصبحت الوسطية منذ ذلك الحين أقرب للتوفيق والتجميع، منها إلى الانتقاء والتوازن والعدالة بمعناها الإسلامي الذي يأخذ الوسطية باعتبارها قسطاساً مستقيماً يوازن بين الأمور ليختار أحسن ما فيها.
الوسطية والهوية
إن دعوى الوسطية قد تكون فيما بين عدد من الأطراف بما يوحي بأنها موقف إزاء مجموعة من الآراء الخارجة عن إرادتنا، وكأن الوسطية تعني التخلي ابتداء عما نعتنقه من أفكار لنضعه على مسافة واحدة من أفكار الآخرين، فنجعل الوسطية موقفاً مستقلاً بين وجهات نظر لا تنتمي إلينا ولا ننتمي إليها، وهو ما يجعل الوسطية عائقاً عن إدراك الهوية وتحييداً للذاتية والخصوصية على حساب التماهي مع الآخر.
لذلك، فإن الوسطية يجب أن تُفهم في سياق الهوية الإسلامية بأنها موقف عادل متوازن ينفتح على الآخرين ويستوعب الحضارات والثقافات والمواقف والاتجاهات ولا ينغمس فيها كلياً، بل هي إدراك متعمق للذات الإسلامية ومكوناتها الهوياتية، وما يشكل تلك الهوية من مبادئ عامة لا يمكن التخلي عنها، ثم بعد ذلك هي انفتاح واعٍ على الحضارات الأخرى جميعاً –وليس الحضارة الغربية فحسب– تأخذ منها بميزانها العادل أفضل ما فيها، متوافقاً مع تلك الهوية وترفض ما يجدر رفضه.
من هنا، فإن الوسطية الحقة هاهنا كاتجاه فكري يجب أولاً أن تُحقق فهماً قوياً وأصيلاً للذات قبل الانفتاح على الآخرين، ثم تؤلف عبر منهج متوازن تركيبة نهضوية حديثة تتلاءم مع تلك الذات الإسلامية ولا تتصارع معها، ولا ترى في تلك الذات الإسلامية عائقاً أمام التحديث والنهضة، بل هي المكون الأساسي لتشكيل أي رؤية نهضوية وأساس انطلاق أي موقف وسطي يعي الوسطية بمعناها الحقيقي.