لم يكن الإنترنت يومًا حكرًا على فئة معينة من الناس، لكنه كان محدودًا في استخدامه وانتشاره.
لكنه اليوم انتشر انتشارًا واسعًا، واستخدمه الجميع الصغير منهم والكبير، المتعلم والمثقف والجاهل والأمي، ودخل في كل بيت وشركة ومؤسسة.
وله من الفوائد ما لا يخفى على أحد؛ فقد قرَّب المسافات بين البشر؛ فأصبح التواصل سهلاً ميسورًا ورخيصًا، ويسَّر الحصول على المعلومات.. إلخ.
لكنه له طوام جعلت العقلاء يحذرون من سوء استخدامه.
وقد تعددت أشكال سوء الاستخدام، من: تحرش بالآخرين وابتزاز لهم، ونصب عليهم، وتسول عبر الإنترنت، وبحث عن الشهرة والربح السريع ولو كان بما ترفضه الفطر السليمة السوية.. إلخ.
ومن ضحايا الاستخدام السيئ الأطفال الذين يتم التعدي على براءتهم، وانتهاك طفولتهم، وعدم تركهم يعيشون حياتهم الطبيعية مثل سائر أقرانهم، من خلال استغلالهم الجنسي، أو التربح بهم.
وإذا نظرنا لبلدنا الجزائر فقد لوحظ بوادر وجود استخدام سيئ للأطفال مما يدفعنا لدق ناقوس الخطر، والعمل على توعية الأولياء بتلك الأخطار، وتفعيل القوانين من جانب الدولة التي تحدُّ أو تمنع من هذا الاستغلال، وردع من تسول نفسه انتهاك براءة الطفولة والأخذ على يده.
تقول «وهيبة. س» حول هذه القضية الجديدة: باتت حمى « تيك توك» تجتاح الكثير من العائلات الجزائرية في الآونة الأخيرة؛ فالكل يبحث عن الشهرة وجلب المال؛ ما زاد من حدة التنافس نحو من يصنع محتوى يحصد الكثير من المشاهدة، وإعجاب المتابعين.
الأطفال هم طُعم جديد استغله بعض الأولياء للربح من «تيك التوك»، و«يوتيوب»، دون المبالاة لحق هذه البراءة في مرحلة ينبغي أن يعيشها الطفل خارج عالم الكبار، تتناسب مع سنه وعقله بلا زيف ولا تصنُّع ولا لهث وراء الشهرة وأمراضها!
أسماء كثيرة لأطفال بعضهم لا يتعدى 8 سنوات، اشتهروا مؤخرا على «تيك توك»، و«يوتيوب»، وتفاقم استغلالهم من طرف عائلاتهم، في إضحاك الغير، أو إبهارهم بالكلام وبعض التصرفات، أو بعض المواهب، حيث تطور الأمر عند بعضهم إلى تقمص شخصيات لا تتناسب مع سنهم، كما وصل بهم ذلك إلى التزين بـ«المكياج» وألبسة الكبار(1)، بل بات بعض الأطفال «يشتهرون -أيضًا- في الأغاني الرايوية الهابطة؛ فبكبسة زر يظهر لك أطفال عبر «يوتيوب» وهم يتراقصون ويغنون في الملاهي ومجالس السوء، ويمارسون إيماءات بحيث انسلخوا عن عفويتهم وبراءتهم بتلك السلوكيات التي تفوق سنهم بكثير»(2).
ويعتبر رئيس الشبكة الجزائرية للدفاع عن حقوق الطفل (ندى) عبدالرحمن عرعار أن هذا الاستغلال بمثابة اتجار بالبشر، وأكد أن شبكة «ندى»، أحصت خلال يونيو 2022م قرابة 700 طفل تم استقبالهم ومرافقتهم لإيجاد الحلول الصحية والقانونية، والاجتماعية لهم، وكانت نسبة كبيرة منهم قد استغلوا في ترويج المخدرات أو التشهير على «تيك توك» و«يوتيوب».
ويرى عبدالحليم مادي، مختص في علم النفس التربوي والتنمية الاجتماعية، «أن استغلال الأطفال على منصات التواصل الاجتماعي خطر حقيقي يهدد مستقبل هذه الشريحة من الناحية النفسية والنمو الطبيعي لها، حيث تتولد لهؤلاء عقدة الشهرة، وقد يضيع مستقبله الدراسي، ولا يعيش طفولته».
وهناك جانب أكثر سوءًا وشرًّا وانتهاكًا للطفولة البريئة وهو الاستغلال الجنسي للأطفال؛ حيث إنه ووفقًا لدراسة حول «جرائم الإنترنت والأطفال في الجزائر» قام بها مرصد حقوق الطفل بالتعاون مع الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث، بينت نتائجها أن 30.5% من الأطفال المبحوثين تلقوا عروضًا للحصول على هدايا والاستفادة من رحلات سفر من طرف مجهول، فيما صدم 46.5% من المبحوثين جراء مشاهدة صور إباحية.
وبالتالي أضحى الطفل في مواجهة خطرين لا خطر واحد؛ يكمن الأول في تحول الطفل من حيث لا يدري إلى مادة إباحية تبث عبر الإنترنت، والثاني في انصراف الطفل إلى الاستغراق في هذه المواد الإباحية دون رقابة أسرية ولا مجتمعية(3).
وهذه أخطار عظيمة التفتت إليها الدولة، وقد تضمنت قوانينها حماية كافية من المواد الإباحية واستغلال الأطفال عبر الإنترنت.
وبالنسبة لاستغلال الأطفال للتربح من خلالهم، فإن القانون الجزائري يمنع مثل هذه التصرفات، ويدخلها في خانة استغلال القصر وتحريضهم على الفسق، وذلك بحسب المادة (342) إلى المادة (358) من قانون العقوبات.
ومحاولة من الدولة لحماية الأطفال، أعلنت وزارة البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، في بيان لها، عن الإطلاق الرسمي لـ«دليل حماية الأطفال على الإنترنت»، بمناسبة إحياء اليوم الوطني للطفل الجزائري المصادف لـ15 يوليو من كل سنة.
ويهدف هذا الدليل العملي إلى وقاية الأطفال وحمايتهم من الأخطار المحتملة التي قد تترتب عن استعمالهم لشبكة الإنترنت، نظرًا للفضول والعفوية التي يمتازون بها، التي تجعلهم عرضة لأضرار وانتهاكات لسلامتهم المعنوية وحتى الجسدية.
ويقوم الدليل المذكور على مقاربة متكاملة لحماية الأطفال، على اختلاف فئاتهم العمرية؛ الطفولة المبكرة، والطفولة المتوسطة، والمراهقة، اعتمادًا على إشراك كل الفاعلين في محيطهم المقرب، كالأولياء والمربين(4).
وهذه الأفعال مهمة من قبل الدولة وإن لم تمنع وجود هذه الظاهرة تمامًا، لكن بتضافر الجهود المجتمعية مع الدولة يمكن ردع أمثال هؤلاء المنتهكين للبراءة لأغراض الغنى السريع عن طريق التسول غير المباشر، أو إيقاع الأطفال في براثن عصابات تستغلهم في الجنس والدعارة.
وتوعية الآباء الذين يدفعون أولادهم ليكونوا من مشاهير وسائل التواصل أنهم بذلك إنما يجنون على أولادهم جناية عظيمة، وأن تلك الأرباح لا تساوي شيئًا إذا فقد الأطفال براءتهم.
______________________________
(1) حمَّى المشاهدات وربح الأموال تجتاح عائلات جزائرية في الآونة الأخيرة.. أطفال ضحايا «تيك توك»، موقع الشروق، 29/ 5/ 2023م.
(2) نسيمة خباجة: من يُنقذ البراءة في الجزائر؟ الأحد، 9 يناير 2022م، موقع أخبار اليوم.
(3) نصر الدين منصر وسيف الدين عبان: الحماية القانونية للطفل من الاستغلال الجنسي عبر الإنترنت دراسة وصفية مقارنة بين التشريعات الدولية والتشريع الجزائري، مجلة الرسالة للدراسات والبحوث الإنسانية، المجلد 2، العدد 8، سبتمبر 2018م.
(4) الإطلاق الرسمي لدليل حماية الأطفال على الأنترنت، الأربعاء, 15 جويلية 2020م، موقع وكالة الأنباء الجزائرية، باختصار.