عجيبٌ هذا الذي يجري اليوم على أرض غزة! عجيبٌ هذا الحدث بكل تقلباته وأطواره! عجيبٌ بخفضه ورفعه وقبضه وبسطه وتقديمه وتأخيره وأخذه وردّه! ما أكثرها الآيات الربانية التي تتجلى في هذا الحدث! وما أحْكمَها السننُ الإلهيةُ التي تَنْتَظِمُ في فلكها الماجريات! كمْ نحن بحاجة إلى أن نَتَفَرَّسَ الآيات ونتأملَ السنن ونستلهمَ الدروس والعبر! فأَعْظِمْ به من درس له في حاضر الأمة ومستقبلها أثر بالغ الخطورة! وأَكْرِمْ وأَنْعِمْ بأهل غزة من قوم يمثلون للأمة الإسلامية قلبها النابض وروحها الباعث.
أرأيتم كيف استطاع رجال لا يملكون من السلاح والعتاد إلا أبسطه وأيسره أن يحطموا أسطورة «القبة الحديدية»، وأن يرغموا أنف أكبر قوة عسكرية في المنطقة؟ وأن يمرغوا في التراب كرامة كيان يعد نفسه الدولة المحورية في منطقة الشرق الأوسط كلها؟! أرأيتم كيف أفلحوا ونجحوا في صبيحة واحدة ساذجة أن يهددوا الوجود «الإسرائيلي»؟ وأن يرفعوا بنصل السيف وسن الرمح إلى قائمة الاحتمالات زوال دولة «إسرائيل»؟!
إذا أردتم أن تقيسوا حجم المصاب الذي حلّ بأعداء الأمة كافّة من صليبيين وصهاينة فانظروا إلى حالة الذعر والتوتر والطيش التي أصابتهم وأطارت لبهم وأذهبت أحلامهم، فليس لحدث عاديٍّ يتحرك رئيس أكبر دولة ويحرك معه وزير خارجيته وزعماء العالم الغربيّ من حوله، كأنّ معاقلهم ضربها زلزال مدمر، أو هاجمها تسونامي هائج أو إعصار مارد، إنّها بحق آية لا تقل عن تلك التي قال الله عنها: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر: 2)، أجل.. فاعتبروا أيها المؤمنون ولا تعظموا من شأن أعداء الله.
لسنا بحاجة -بعد هذا القدر من الإعجاز- إلى تتبع الآيات الكبرى التي سبغت قطاع غزة وغمرته من طرفه الشماليّ المرابط الصامد إلى طرفه الجنوبيّ المبتلى الصابر، لسنا بحاجة إلى أن نسرد قصص الإيمان واليقين والصبر، التي لولا أنّها نُقلت إلى العالم بالصوت والصورة لحسبناها من المعجزات التي ما عاد الزمان يجود بمثلها، تلك الآيات التي أجراها الله تعالى بحكمته وقدرته حتى على الأطفال، إلى حدّ أنّه لا ينسيك عظمة الموقف إلا أن ترى موقفًا آخر أشد منه عظمة وإبهاراً؛ فما أروع هذا الذي نراه ويراه العالم أجمع! أحْسَبُ أنّ هذه الآيات سيكون لها بالغ الأثر في البعث القادم، ولا أظنّ الضمير الإنسانيّ يمكن أن يتجاوز تلك المشاهد، فما أشد جوعة الفطرة الإنسانية إلى النبع الذي يعب منه هؤلاء.
لقد رأينا الآيات ورأينا كذلك السنن الإلهية، رأيناها تعمل وتحدث أثرها، رأينا رأي العين كيف يتحقق على أرض الواقع مثل هذه السنن: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة: 249) (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال: 17) (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) (المائدة: 23) (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40) (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) (الحج: 38)، وغيرها من القوانين الربانية والنواميس الإلهية وسنن الله الجارية في المجاهدين.
جميع هذه السنن الخاصة بالمؤمنين جارية على القاعدة الشرطية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، فلمَّا قامت الطائفة التي يناط بها واجب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (التوبة: 123)، لمَا قامت بهذا الواجب الذي أنيط بها ونصرت الله نَصَرَها الله، لكن عندما تكالبت قوى الشرّ عليهم تعلق الواجب بدائرة أوسع، قعدت ولم تنصر الله؛ فتوقفت تلك السنن لانتفاء شرطها، وعملت في كل طائفة سنن خاصة بها.
فأمّا الفئة المجاهدة ففيهم تعمل السنن التي تنطوي عليها هذه الآيات القرآنية: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (آل عمران)، فالتمحيص وتقديم الشهداء مقدمة للنصر القادم.
وأمّا باقي المسلمين الذين قعدوا عن الواجب الذي أنيط بهم فتجري فيهم سنن أخرى، أشدها ما توعدت به هذه الآية: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: 38)، وأمّا الكفرة المجرمون ففيهم تجري سنن، أهمها وأبرزها سنّة الاستدراج والإملاء، وهي سنة ماضية مطَّردة، وقد ذكرها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، منها قول الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام).
لكنّ الذي يغفل عنه كثير من الناس أنّ أخْذَ الله الكافرين المحاربين للإسلام وأهلِهِ وكسرَهُ لشوكتهم واستئصالَهُ لشأفتهم لن يكون بكوارث كونية كتلك التي أخذ الله بها عادًا وثمود وفرعون وقارون، وإنّما بأيدي المؤمنين، فأخْذُ الله لهم آت لا محالة، ولكنَّ هذا سيجريه الله تعالى بأيدي المؤمنين، لذلك لمّا ذكر الله تعالى مصارع الغابرين في سورة القمر، بعضهم بريح صرر عاتية وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالحاصب وبعضهم بالغرق، ختم بقوله: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (القمر)، ولمّا تحقق ذلك في بدر نزل قوله تعالى: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) (الأنفال: 52).
وإنّ من المنح التي تنطوي عليها المحن أن يعري الله تعالى أعداء أمته، ليراهم الناس على حقيقتهم، فها هم أولاء يتهموننا نحن المسلمين بالإرهاب ظلمًا، بينما يمارسون هم إرهاب الدولة وإرهاب النظام الدوليّ ضد الشعوب المستضعفة والأمم المبتلاة بقسوتكم وجلافتكم، لسنا إرهابيين، ومَنْ يصفونهم بالإرهاب هم الذين قال الله فيهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 23)، هم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: «فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ»، وصدق الله رسوله وكذب عدو الله عجوز الظلماء الذي جرّ البشرية في عهده إلى حافة الهاوية، وحسبنا الله ونعم الوكيل.