إن المصاب جلل، والفاجعة أليمة في فقد شيخنا فضيلة د. أحمد الحمادي رحمه الله، حيث لم تفقد قطر ونحن والأمة معها برحيله مجرد عالم من علمائها، أو داعية من دعاتها، بل فقدنا رمزاً إسلامياً من الطراز الفريد من رموز الدعوة إلى الإسلام في العصر الحاضر، ورائداً من رواد العمل الخيري والإنساني على مستوى العالم لما يقرب من نصف قرن.
لقد كان د. أحمد الحمادي، الذي توفي السبت 29 ربيع الأول 1445هـ/ 14 أكتوبر 2023م، بمثابة «مؤسسة» متكاملة في ميداني الدعوة وعمل الخير معاً، فجهوده الدعوية عبرت حدود قطر والعالم الإسلامي، وآثاره الخيرية تتحدث عنه في كل أنحاء العالم، فهو بحق مفخرة من مفاخر قطر، وعلم من أعلام أمتنا في العصر الحاضر، يصدق عليه أنه:
والناس ألفٌ منهم كواحدٍ وواحدٌ كالألف إن أمرٌ عنا
وكان رجلاً بأمة.
ورب همة أيقظت أمة وليس على الله بمستنكَرٍ
وممن ورد فيهم الحديث النبوي: «إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة».
وكُن في الطريق عفيف الخطى شريف السماع كريم النظر
وكن رجلاً إن أتوا بعدهُ يقولون مرّ وهذا الأثر
وقد سطر رحمه الله تاريخاً حافلاً في ميادين العمل الخيري والدعوة الإسلامية، تكتب سيرته المضيئة العطرة بمداد من الذهب، لتقرأها الأجيال بكثير من الانبهار وتأخذ منها العبر والدروس، وتحفز على الإيجابية والعمل، بصماته وجهوده ترتقي بالهمم إلى معالي الأمور في زمن التفاهة والسفاسف والانحطاط.
وكأنه القمر المنير إذا بدا رحل الظُلَم وكأنه البحر الخضم إذا تقاذف والتطم
قطوف من مناقبه
ومع كل الإنجاز في خدمة الإسلام والمسلمين، فقد كان رحمه الله في ذات نفسه من بقية السلف الربانيين، كان رجلاً قرآنياً فريداً، من الذاكرين الله كثيراً، تؤثر في النفس رفقته، وتذكر بالله رؤيته، وتحفز على طاعة الله صحبته، زاهداً في الظهور، يزينه سمت حسن، ويتوجه هيبة ووقار، ومع ذلك فهو يتصف ببساطة وعفوية، وابتسامة وبشاشة بلا تكلف، سهل لين، يألف ويؤلف، قليل القول كثير العمل، قصيرة موعظته وخطبته، قدوة بأخلاقه وسلوكه، لا يذكر أحداً بسوء، نقي السريرة، تشعر بروح الإخلاص والصدق في مواعظه وحركته، نحسبه كذلك والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحداً.
ولم أقل ما قلت -والله يعلم- من باب العاطفة والمبالغة، ولا من باب مجرد السماع ممن صحبه، بل عن رفقة شخصية له وصحبة، فقد أكرمني الله وتشرفت بمعرفته وصحبته أثناء زياراته الدعوية للمجر والنرويج ومشاركته في المؤتمرات الدعوية في بلدان أخرى، ولولا خشية الإطالة وعدم مناسبة المقام لذكرت من مواقفه وقصصه مما رأيته بعيني وسمعته بأذني ما يكون شاهداً على كلامي ودليلاً على صدقي، ولكن يكفيني أن من عرف الشيخ وصحبه يعرف ذلك ويشهد به، بل ولديه من المواقف الدالة على ذلك أكثر مما عندي.
إني لتـطربـــني الخلال كريمة طرب الغريب بأوبة وتلاقِ
ويهزني ذكر المروءة والندى بين الشمائل هزة المشتاقِ
فإذا رزقت خليقة محمودة فقد اصطفاك مقسم الأرزاقِ
جهوده وآثاره في أوروبا
كان للشيخ رحمه الله اهتمام خاص بالمسلمين في قارة أوروبا، وعناية بالغة بالحضور الإسلامي فيها وأساليب تطويره والنهوض به، فقد اطلع أثناء رحلاته إليها على التحديات الكبيرة التي يتعرض لها المسلمون في الغرب عامة وأوروبا خاصة، وحمل همهم وشعر بمدى الحاجة الشديدة والماسة لمن يقف معهم ويمد يد العون لهم، فنذر نفسه لذلك بقدر ما يستطيع، وأصبح لهم أباً حانياً ووالداً شفيقاً، وليس ذلك من قبيل التعبير المجازي العام، بل أصبحنا نحن كدعاة وأئمة في أوروبا كثيراً ما نناديه ونخاطبه عند لقائه بقولنا: شيخنا ووالدنا.
ودعنا اليوم الأخ الحبيب فضيلةالشيخ الدكتور #أحمد_الحمادي رحمه الله وغفر له
وجعل الفردوس الأعلى منزله.
عرفتُ الشيخ الحبيب منذ أكثر من 35 سنة
عرفته أخاً ومربياً وعالماً وداعية في الحضر والسفر.
عرفته رجلاً مخبون القلب عفيف اللسان، رقيق المشاعر سمح التعامل، تخلق بأحسن الأخلاق… pic.twitter.com/uEB3cIOUqf— د.سلطان الهاشمي (@drsalhashmi) October 16, 2023
وقد زار معظم دول القارة، إن لم يكن كلها، وله في كل نواحيها بصمات ولسان صدق يذكر به، فقد كان لا ينتهي من رحلة إلا ويعد لأخرى، ولا ينجز مشروعاً إلا ويبدأ في الآخر، بل في كثير من الأحيان يكون لديه أكثر من مشروع في وقت واحد في أكثر من بلد، كان يلتقي بالدعاة في المساجد ويسمع منهم ويسألهم عن وضع المسلمين في البلد بل عن كل مدينة، ويهتم بالاحتياجات الماسة ويدرسها ويقدمها للمتبرعين في قطر، وخاصة عن طريق جمعية قطر الخيرية التي كان عضواً فيها.
ولعقود من الزمن، أنشأ في معظم بلدان قارة أوروبا العديد من المشاريع الإسلامية بين مركز ومسجد ومدرسة، وفي بعض الدول أسس أكثر من مشروع، بل أحيانًا على مستوى المدن الصغيرة وليس العواصم والمدن الكبرى فقط، وفي رأيي أنه يستحق أن يطلق عليه لقب «رجل قارة أوروبا».
تقرير موثر لـتلفزيون قطر عن مناقب فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الحمادي رحمهُ الله وطيّب ثراه #الحمادي l #قطر pic.twitter.com/8pYWRFmR2V
— iumsonline (@iumsonline) October 15, 2023
وقد كتب في فقده أخي الحبيب الشاعر الكبير د. عبدالغني السبئي، مدير المركز الإسلامي في المجر، جزاه الله خيراً، مرثية عزاء بديعة رائعة بعنوان «من المجر إلى قطر»، أقتبس منها قوله:
فـــقــدنا به أمةً في الــهـدى وبحراً من الجود بين البشرْ
فقـــــدنا به قدوةً في السخاء ونهراً من الخير في كل بـرّْ
ففي كل وادٍ له بــــصمــــةٌ ومسجدُ في ذاك أو ذا مــــقرْ
أحـــــاول ســـرداً لآثـــارهِ فينهار شعري وتُمحى الفِكَـر
فعـــملاقنا كان من طينـــةٍ تدور مع الخير أنَّى خَـــــطَرْ
أُحَدِّثُ عنه؟.. وأفـــــضاله علينا عظامٌ بأرض المجــــر
فقد كان شهماً بما دَهْدَهَتْ يداه عـــليـــنا بهـذا الــقُطُرْ
مقترح وأمنية
ومن باب الوفاء للشيخ رحمه الله، أقترح وأتمنى أن يقوم كل أهل بلد أوروبي بإحصاء عدد المشاريع التي دعمها في بلدهم وعدد المستفيدين منها، وشرح فكرة موجزة عنها، ثم يتم جمعها في كتاب واحد على مستوى القارة، ويتم نشرها برعاية المؤسسات الإسلامية في أوروبا وعائلة الشيخ رحمه الله.
ولن تقل المشاريع عن المئات والمستفيدين منها عن عشرات الآلاف، بل قد تصل مئات الآلاف خاصة من المصلين كل جمعة على مستوى القارة، وهناك غالباً قصة لكل مشروع على حدة تحتوي على العقبات أمام إقامة المشروع، ثم عوامل النجاح وذكر ذلك مفيد ومحفز.
رحم الله الشيخ الدكتور الداعية أحمد الحمادي وتقبله في الصالحين. وأعمق التعازي القلبية فيه، لأهلنا في قطر، ولكل الأمة الإسلامية.
إنا لله وإنا إليه راجعون. pic.twitter.com/6jT2DR2pEo— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) October 17, 2023
ومما أذكر من خلال العلاقة مع الشيخ أنه كان مهتماً جداً بالمسلمين الجدد، سواء ممن دخل على يده في الإسلام وهم كثير أو غيرهم، كان يسأل عنهم باستمرار ويحب اللقاء بهم أثناء زياراته، وله معهم قصص كثيرة تستحق أن تجمع وتنشر ضمن آثاره وجهوده.
وفي رثاء شيخنا الحمادي قلت هذه الأبيات:
يا للفجيعةِ! في رحيلِكَ شيخَنا يا للمصابِ! بكم وكم قد هزَّنا
كم كان فقدُ أبي صلاحٍ موجعاً كم فقدُهُ أدمَى القلوب وأحزنا
مِن بعدِهِ مَن للمساجد رافعاً؟ من ذا يؤسِّسُ من يسارعُ في البِنَا؟
كم في النواحي من أوروبا ذكرُهُ؟! آثارهُ تاللهِ ليس لها فَنا
كم شاهدٍ في الأرض يحكِي فعلَهُ ويقول: أحمدُ قد أتى من ها هنا