كلما غلغلتُ نظري في مختلف شؤون وجوانب القضية الفلسطينية، إلا وشعرتُ بدوار شديد وبوجع وألم وكمد يكاد يبلغ أقصى مداه في تلافيف روحي وعقلي ووجداني، لا بسبب ما أراه وأتابعه يومياً من صور وأشكال مؤازرة ودعم القوى الصليبية الحاقدة على الإسلام وأمته، للكيان الصهيوني المتعجرف، الذي تمّ جمعه من شتات تلك الدول الصليبية وغرسه في قلب ديار العروبة والإسلام، لأنّ ذلك أمر طبيعي مفهوم الأبعاد والدلالات، إذ إنّ تلك القوى الحاقدة هي صاحبة المشروع الصهيوني وهي راعيته بكلّ ما أوتيت من قوة مالية ومادية وأسلحة دمار وتدمير وما إلى ذلك من أدوات ووسائل المؤازرة والدعم.
وإنما بسبب تخاذل الأطراف العربية والإسلامية المحسوبة على فلسطين وقضيتها العادلة، أجل إنّ المشكلة الرئيسة تكمن في أمتنا أساساً وفي العرب خاصة، فمَن يهن يسهل الهوان عليه، ويبدو أنّ هذه المرحلة غير مسبوقة في تاريخ القضية الفلسطينية منذ نشأة الاحتلال الصهيوني فعلياً عام 1948؛ لأن عدة دول عربية متغلّبة على إرادة شعوبها أخذت تُعلن صراحة -ودون أيّ تحفظات- تخلّيها عن حق فلسطين والفلسطينيين في أرضهم وإقامة دولتهم المستقلة، بل أكثر من ذلك، ذهب بعضُها يدافع بصفاقة وقلة حياء عن «إسرائيل» وعن حقها في الوجود وفي الدفاع عن نفسها، وكأنها كانت موجودة قبل عام 1948م!
إنّ هذه المتغيرات غير المسبوقة تنذر بعواقب شديدة الخطورة، إذ كيف يستسيغ المواطن العربي والإنسان المسلم دفاع أنظمة عربية عن كيان صهيوني محتل لأرض الإسراء والمعراج؟!
مما لا شكّ فيه أنّ هذه المفارقة البائسة سوف توسّع الهوّة والجفوة أكثر فأكثر بين الشعوب العربية وحكّام التغلّب والقهر -كما يُسمّيهم فقهاء الإسلام- وفي ذلك خطرٌ ماحقٌ على استقرار الأوطان وتماسك الجبهات الداخلية لشعوبنا ووحدتها الوطنية.
ولا يسعنا في هذه الظروف العصيبة ونحن نتجرع مرارة هذا الواقع الأليم، إلاّ أن نذكّر بحقائق التاريخ، التي لا ينبغي أبداً أن تُنسى أو يُهال عليها التراب، وأن نسجّل هذه الآهات الحزينة، مع علمنا أنّ أمتنا لن تموت ولن تَنسى أبداً قضيتها الأولى، وسوف يتغير الواقع الظالم يوماً ما لصالح هذه الأمة، فأملنا في الله كبير وفي طلائع النصر من أجيالنا الناشئة التي سوف تؤمن وتتمثّل أسباب النصر في منعطف ما من منعطفات التاريخ.
فلسطين عراقة موغلة في التاريخ
إنّ كلّ من يدأب على قراءة التاريخ قراءة متأنية فاحصة دقيقة، مع تمهُّل وترسُّل وتسجيل للملاحظات التي تلوح من بين السطور في هذا الموضع أو ذاك، يتأكد له يقيناً أن ما يُسمّى دولة «إسرائيل» تخشى التاريخ كثيراً وتعتبره عدوّها الأول؛ ولذلك فهي تسعى على الدوام لِهَرْطِهِ وتمزيقِ أوصاله وتحريفِ مستنداته، ولا ريب أنّ من ثوابتها الراسخة عند العجز عن بلوغ هدف من الأهداف اللجوء إلى الاغتيال والتصفية الجسدية، فذلك هو إرث الأجداد وتلك هي وصاياهم الموروثة منذ آماد بعيدة، فهؤلاء القوم الجفاة أو الرهط البائس قتلوا يوحنا المعمدان يحيى بن زكريا عليه السلام ، وما فعلوه بعيسى ابن مريم عليه السلام معروف مبسوط في القرآن الكريم، وفي كتب تاريخ الأنبياء ونحوها.
وقد سجّل القرآن الكريم عنهم هذه السجيّة القاتمة القارّة أو الثابتة في إهابهم ومسالكهم العامة في قوله تعالى: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ۖ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) (المائدة: 70).
وفي هذا العصر اغتالوا اللورد موين (1880 – 1944م)، وزير المستعمرات البريطاني؛ لأنه عارض أن تكون فلسطين أرضاً مناسبة لجمع شتات اليهود -وهو أمر لا تهواه أنفسُهم- حيث دعا إلى البحث عن أرض أخرى غير أرض فلسطين.
واغتالوا أيضاً الدبلوماسي السويدي الكونت فولك برنادوت (1895- 1948م)، السكرتير العام للأمم المتحدة، يوم 17 سبتمبر 1948م؛ لأنه قدّم عدّة مقترحات إلى الأمم المتحدة كان من بينها التوصية ببقاء القدس بكاملها تحت السيادة العربية.
وبما أنّ التاريخ وكشوفاته الأثرية ووثائقه لا يُثبت مقدارَ مُسْكَةٍ من حقٍّ لـ«إسرائيل» في فلسطين، فسيظلُّ دون شكّ يمثل العدو اللدود لهذه الدولة اللقيطة على ظهر الثرى، الشاذة عن كلّ الأعراف والقوانين، فالتاريخ يقول: إن العرب اليبوسيين الكنعانيين هم الذين بنوا القدس في بدايات العصر البرونزي منذ ما يربو على 6000 عام؛ أي قبل 2600 عام على الأقل من ظهور الديانة اليهودية.
وحتى الذين أشكل عليهم الأمر وظنوا بأن اسم «أورشليم» أو «يورو شليم» اسم عبري، نقول لهم: إنّ أورشليم كلمة آرامية كنعانية، والآرامية الشرقية هي اللسان الذي نزل به الإنجيل على عيسى ابن مريم عليه السلام في مدينة الناصرة بفلسطين؛ فهذه اللغة هي إحدى الألسنة السامية الشرقية القديمة مثل اللغة الكنعانية والسومرية والأكدية والسبئية، والكثير من علماء اللغات يذهبون إلى أنها تنتمي إلى فروع دارسة من اللغة العربية القديمة، التي لم تقترب من بعضها ولم تأخذ في التآلف والتناسج والمطاوعة إلا عندما انتشرت بين قبائل شبه الجزيرة العربية قبل وإبان ما يُسمى بالعصر الجاهلي الذي انتهى بنزول القرآن.
أما ظهور داود، وسليمان، عليهما السلام، فقد كان في مرحلة متأخرة جداً على تاريخ بنائها وتأسيسها وحكم العرب الطويل لها، ولم تدم فترة حكمهما لها أكثر من 70 عاماً، وهذه إرادة الله تعالى في إرسال أنبيائه وتنزيل كتبه التي كانت كلها في المنطقة العربية، فما علاقة هذا الأمر بالأحقية في الأرض؟
إن موسى عليه السلام -أكبر وأشهر أنبياء بني إسرائيل- شاء له الأمر الإلهي أن يُبعث في مصر، وأن تتنزل عليه التوراة بلغة مصر القديمة وهي اللغة الهيروغليفية، فهل معنى ذلك أنّ مصر أرض يهودية وأنها من حق بني إسرائيل؟ إذا كان الأمر كذلك، أو وفق هذا المنطق المُعوج، فإن فلسطين تضحى أرضاً مسيحية؛ لأن عيسى ابن مريم عليه السلام مواطن فلسطيني، كما تضحى مصر أرضاً يهودية؛ لأن موسى عليه السلام مواطن مصري!
إنّ قضية فلسطين ينبغي أن تُفهم في ضوء حقائق التاريخ الموثقة، ولذلك قلنا: إن التاريخ هو العدو اللدود لدولة الكيان الصهيوني لأنه ينسف جميع مزاعمها.