لقد هبت رياح الجنة، تجدد الحياة في ظلال الإيمان، وتحيي موات النفوس، التي أرهقتها متاهات حياة مادية جافة، وتمسح اليأس والقنوط، الذي أتى على أخضر حياتنا وجعله يابساً يباباً.
هبت رياح الجنة، تذكرنا بأجدادنا الأوائل، حين انتظموا صفوفاً متراصة تحت ظلال السيوف، فكانوا القادة السادة، الفاتحين، الذين خضعت لهم الرقاب، ودانت لهم البلاد، وسارت بذكرهم الركبان، فكانوا رواد حياة، وجيوش قيم وأخلاق، وناشري مبادئ الحياة السامية.
هبت رياح الجنة، تبيض القلوب التي سودها ران الغفلات والمعاصي، التي تعطلت وظيفتها تماماً، فما عادت تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً.. فجاءت رياح الجنة كي تعيدها للخدمة وأداء مهامها بحيوية ونشاط.
هبت رياح الجنة، كي تذكرنا بتاريخنا وأمجادنا، التي صنعها أجدادنا الأوائل، حين تمسكوا بأهداب الدين، وحكموا فيهم كتاب الله، وساروا على طريق رسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ممتثلين أمره، آخذين بوصيته، حين قال لهم ولنا: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم».
يا شباب الأمة..
هبت رياح الجنة، كي تذكرنا بقضيتنا الأولى، التي ينبغي أن نلتفت إليها صادقين، ونعمل لها جادين، ونسعى في ركابها مخلصين، ونقف عند حياضها مدافعين، وفي سبيلها نمضي مجاهدين مضحين، قضيتنا الأولى يا شبابنا هي قضية هذا الدين العظيم، الذي جمع في الماضي شتات أمتنا، ووحد صفوفها، وأعلى مكانتها، ورفع مقامها، ونقلها من هامش الحياة إلى بؤرتها، ومن التبعية السياسية والفكرية والعقدية إلى الاستقلالية التامة بشخصية فريدة، فملكنا السيادة والقيادة البشرية، حتى غدونا قبلة المتنورين، وملجأ المظلومين، فقد نشرنا في العالم نور العلم والحضارة، وبددنا بحول الله ونور كتابه ظلمات النفس البشرية، التي انحرفت عن سبيل الله، فنشرت الظلم والطغيان، واستعبدت الإنسان، وأهلكت الحرث والنسل والحيوان، وصادرت حق الإنسان وحريته في حياة كريمة، لقد فهم الأول من أجدادكم رضي الله عنهم الهدف من حياتهم، والغاية العظمى في وظيفتهم، فقال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، وقال الآخر: ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد لعبادة رب العباد، ومن جور الأديان لعدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
هذه هي مهمتكم يا شباب الأمة، فلا تغفلوا عنها، واحرصوا أن تضيع منكم غايتها، في زحمة المصطلحات والتنظيرات والتأطيرات، التي تشم منها روائح مكتومة، والتي يراد منها تغييب جوهر قضيتنا، وصرفنا عن كنه دعوتنا.
يا شباب الأمة..
هبت رياح الجنة، كي تقول لكم، وتهمس في آذانكم: إن البشرية اليوم مرهقة -أرهقتها قوانين وأنظمة تقتل الفطرة، وتحرف بوصلة الحياة، وتقلب الموازين رأساً على عقب- تنتظر مقدمكم، فأين أنتم؟ إن الإنسانية اليوم في حالة احتضار، وهي على وشك أن تلفظ أنفاسها، فأين أنتم؟ لقد فشت في هذا العالم الرذيلة، واختفت أو كادت الفضيلة، وساد الفساد وعم البلاد والعباد، وملأ الفضاء بأرضه وسمائه، حتى تسممت أنفاسه وهواؤه بهذه العصابة المجرمة، التي تصدرت الحكم في هذا العالم، والتي لم تكتف بإفساد مجتمعاتها، وانهيار قيمها وأخلاقها، حين قننت الرذيلة، وأصبحت مشروعة بقوانين رسمية، تحت عناوين كبيرة، تسمى حقوق وحريات.. فعملت على فرضها وتعميمها على سكان الكرة الأرضية، فإن مناظر الحشمة والوقار تؤذي هذه العصابة الحاكمة، التي ورثت قوم لوط عليه السلام الذين قرروا إخراج لوط ومن تبعه من قريتهم، لا لذنب اقترفوه، أو جريمة ارتكبوها، بل لأنهم قوم يتطهرون، فليس غريباً على من فسدت فطرته أن تصبح الطهارة في قوانينه جريمة، والقذارة فيها حقوقاً يجب احترامها، فالشذوذ والشواذ أمة محترمة.
يا شباب الأمة..
هذه قضيتكم فاعملوا من أجلها، واعلموا أنها لا تؤتي ثمارها إلا مع الذين لا يخجلون من حملها، ورفع رايتها، والتصريح الصريح بالانتماء إليها، فقد قال الله تعالى في شأن العاملين المخلصين في حمل هذا الدين: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت: 33).
فليس المطلوب كما تقرر الآية الكريمة أن تدعو إلى الله وتعمل صالحاً فقط، بل عليك أن تجهر بانتمائك للمسلمين، علماً أن الدعوة والعمل الصالح يؤكد الهوية ويكشف حقيقة صاحبها، إلا أن النص على التصريح بانتمائك له دلالات وتأكيدات، على رأسها أنك مسلم تعتز بإسلامك.
يا شباب الأمة..
إن ما فعلته المقاومة في غزة، وما أنجزته من بطولات، وما سطرته من صفحات عزة وكرامة، رغم تواضع الإمكانيات، والعدة والعتاد والعدد، مقابل ما تواجهه من قوة دولية عاتية، فمن الناحية المادية، لا يشك أبداً بالتفوق المطلق لهذه القوة العاتية التي فاقتهم عدداً وعدة وعتاداً،، لكن الواقع كان على عكس كل توقعاتهم، تأكيداً على أن القوة المعنوية النابعة من هذا الدين العظيم كان لها الأثر البالغ في تفوق السلاح البسيط على السلاح الحديث الأكثر فتكاً ودماراً، وغلبة العدد القليل المتواضع في لباسه وتجهيزاته على العدد الكبير المدجج بكل عدة الحرب وأسلحتها، استوقف العالم كله متسائلاً بدهشة وتعجب، ما الذي يحصل؟! من هؤلاء حفاة الأقدام، عراة الصدور، الذين يتصدون للدبابات من مسافة صفر؟! أي دين هذا الذي يجعلهم بهذه القوة والجرأة والشجاعة؟!
ولا يقف الأمر عند حدود المقاومة والمقاومين، بل يتجاوزه لكل من هم على أرض غزة العزة، من أطفال ونساء وشباب ورجال، الجميع كان تجسيداً رائعاً، وصورة أسطورية، للصبر والثبات والتحدي، فقد رسمت غزة لوحات فنية نادرة، في التسليم والرضا والحمد، رغم قسوة المصيبة، وشدة الألم، أقل ما يقال فيها أنها كانت فوق طاقة تحمل بشر، فأي طينة جبلت منها أجسادهم، وأي أرواح تلك التسري في هذه الأجساد؟ بالتأكيد إنها ليست مثل أرواحنا ولا تشبه أجسادنا، فقد كانت لوحات ترسم من جانب بشاعة ووحشية المعتدي المجرم، ومن الجانب الآخر ملائكية وعظمة صاحب الحق المعتدى عليه.
كل هذه اللوحات.. التي اجتمعت كي تشكل مشهداً خالداً، من الجلال الروحي، والجمال النفسي، والكمال الإنساني، دعت المشاهدين والمتابعين للبحث عن السر الكامن خلفها، فكانت بحق دالة على الله جل جلاله، وتحدثنا التقارير عن الإقبال الكبير على دين الله بالآلاف، في البلاد التي تقاتل أنظمتها وحكوماتها رجال الله في غزة.
يا شباب الأمة..
إذا كان هذا هو أثر «طوفان الأقصى» في غير المسلمين، فمن باب أولى أن يكون أثره فيكم أكبر وأعظم، فليكن لكم مع الطوفان حكايات إيمانية، ترتقي بعطائكم، وتزكو به حياتكم، فإن لم يترك الطوفان أثره في قلوبكم، وبصمته في نفوسكم، ولم يعد ترتيب أولوياتكم، ويفرق بين اهتماماتكم، ويشحذ هممكم، ويجدد عطاءكم، ويسمو بتطلعاتكم، وبقيتم على كنتم عليه قبل الطوفان، فاعلموا أنكم بحاجة لأن تراجعوا إيمانكم، وتتأكدوا من صدق انتمائكم، فإنكم حينئذ على خطر جسيم!