خلال الغزو «الإسرائيلي» للبنان عام 1982م، الذي شهد مجزرة «صبرا وشاتيلا»، منع الجيش «الإسرائيلي» الصحفيين جوناثان راندال، مراسل صحيفة «واشنطن بوست»، والأيرلندي روبرت فيسك، من دخول صيدا لمتابعة مذابح الاحتلال بحجة أنها أوامر عليا، حينها صرخ الصحفي الأمريكي راندال في ضابط الاحتلال على الحاجز قائلاً له: انظر إلى تلك الدبابة «الإسرائيلية» التي تركبونها، إنني أدفع الضرائب في أمريكا لكي تحصلوا على هذه اللعبة اللعينة فكيف تمنعني؟!
وقد رصد زميله فيسك هذه القصة في كتابه «ويلات وطن» (Pity the Nation)، وشرح كيف أذعن الضابط الصهيوني وسمح للصحفيين الغربيين بالمرور، بعدما عنفه راندال بغضب.
أتاحت الجنسية والحصانة، حينئذ (1982م)، للصحفيين الغربيين وعلى رأسهم الأمريكي راندال أن يكون له الكلمة العليا عندما اعترض ضابط «إسرائيلي» طريقه وهو ذاهب لإتمام عمله الصحفي، وأصبح يُطلق عليها «حصانة راندال».
لكن في حرب غزة فلم تنفع «حصانة راندال» لا للصحفيين الغربيين ولا الفلسطينيين؛ فقد منع الاحتلال الصحفيين الأجانب من دخول غزة لرصد الجرائم، ورفضت المحكمة العليا «الإسرائيلية»، في 10 يناير 2024م، التماساً تقدمت به «رابطة الصحافة الأجنبية» في القدس السماح للصحفيين الأجانب بدخول غزة خشية كشفهم جرائم الحرب التي ارتكبها الاحتلال هناك، بحجة أنهم سيشكلون خطراً على جنوده!
وقد أعربت رابطة الصحافة الأجنبية في القدس المحتلة، التي تقدمت بالالتماس بصفتها تمثل عشرات المنظمات الإعلامية العالمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، عن خيبة أملها إزاء الحكم، وجاء في بيان أصدرته الرابطة، أن الحظر الذي فرضته «إسرائيل» على دخول الصحافة الأجنبية المستقلة إلى غزة، غير مسبوق.
وعالج جيش الاحتلال صحفيي غزة بالقتل المباشر عندما سارعوا إلى تغطية الأحداث المواكبة لعملية «طوفان الأقصى» عام 2023م، حتى قتل منهم حتى الآن 119 صحفياً وإعلامياً، وفقاً لبيانات وصلت «المجتمع» من منتدى الإعلاميين الفلسطينيين.
«الجنائية الدولية» تحقيق
ودفع هذا المحكمة الجنائية الدولية لبدء تحقيق في جرائم قتل الصحفيين الفلسطينيين في غزة، بطلب من منظمة «مراسلون بلا حدود» بسبب الاستهداف المتعمد للصحفيين وقتلهم كي لا ينقلوا الحقائق إلى العالم ويفضحوا المجازر والإبادة الجماعية.
وانتقد «الاتحاد العالمي للصحفيين» و«مراسلون بلا حدود» و«نقابة الصحفيين الفلسطينيين» جرائم الاحتلال ضد الإعلاميين في غزة واستهدافهم، وطالبوا بمحاكمة قادة الاحتلال وجنوده بسبب هذه الجرائم، وسط تساؤلات: أين ذهبت «حصانة راندال»؟
وكانت منظمة «مراسلون بلا حدود» أعلنت، في نوفمبر 2023م، أنها تقدّمت بشكوى لدى المحكمة الجنائية الدولية ومقرها في مدينة لاهاي الهولندية، تحدّثت فيها عن جرائم حرب على خلفية مقتل الصحفيين في غزة خلال تغطيتهم الإعلامية للعدوان على القطاع.
وأكّدت المحكمة صحة ما أعلنته المنظمة، وقالت: إن تحقيق مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في الأوضاع في دولة فلسطين يُعنى بجرائم مرتكبة ضمن اختصاص المحكمة، منذ 13 يونيو 2014م.
وقال مكتب المتحدث باسم الأمم المتحدة، الإثنين 8 يناير 2024م: إن عدد الصحفيين الذين قتلتهم «إسرائيل» في قطاع غزة مرتفع للغاية، وأضافت فلورنسيا سوتو، من مكتب المتحدث باسم الأمم المتحدة، في مؤتمر صحفي: رأينا هذه التقارير المروعة، ونحن قلقون للغاية بشأن مقتل الصحفيين في غزة، ونعلم أن العدد مرتفع للغاية خلال الفترة القصيرة التي بدأ فيها الصراع.
كان الاستهداف الصهيوني لصحفيي غزة واضحاً؛ حيث كانت الطائرات تقصف منازل صحفيين بعينهم تعلم قوتهم وتأثيرهم؛ مثل الصحفي مصطفى الصواف، عميد صحفيي غزة، وعائلة مراسل «الجزيرة» وائل الدحدوح، وإعلاميي قنوات غزة والصحف كلها عمداً.
وقد أكد «منتدى الإعلاميين الفلسطينيين»، نقلاً عن نقابة الصحفيين في غزة أن الاحتلال «الإسرائيلي» عدو الصحافة الأبرز خلال عام 2023م بإعدامه 119 صحفياً وصحفية خلال 105 أيام من العدوان على قطاع غزة.
وأوضحت النقابة أن جيش الاحتلال «الإسرائيلي» يتمادى في استهدافه المتعمد والممنهج للصحفيين الفلسطينيين ووسائل الإعلام دون أدنى اعتبار للقوانين الدولية والمواثيق الإنسانية المؤكدة على حمايتهم في مناطق الصراع؛ حيث دمرت قوات الاحتلال مقار العديد من وسائل الإعلام خلال عدوانها الغاشم على قطاع غزة، ومنها مقر «وكالة الرأي الإخبارية» و«وكالة الصحافة الفلسطينية» (صفا)، وغيرهما من المؤسسات الإعلامية في برج شوا وحصري بغزة، وسبق ذلك تدمير برجي فلسطين ووطن اللذين يضمان العديد من المؤسسات الإعلامية.
كما اعتقل جيش الاحتلال عدداً من الصحفيين شمال غزة، واعتقل ومدد اعتقال آخرين في الضفة الغربية، وذلك في محاولة يائسة لكتم الصوت الفلسطيني وحجب الصورة الفلسطينية والحيلولة دون وصول الرواية الوطنية الفاضحة لجرائم ووحشية الاحتلال الصهيوني.
وتساءل «منتدى الإعلاميين الفلسطينيين» عن جدوى القوانين الدولية والمواثيق الإنسانية في ظل تغول جيش الاحتلال «الإسرائيلي» على حرية الإعلام وقتله بدم بارد لعشرات الصحفيين وتدمير مقار العديد من المؤسسات الإعلامية واستمرار مسلسل اعتقال الصحفيين؟!