تأتي الذكرى المئوية لإلغاء الخلافة العثمانية، وفلسطين تعاني ما تعانيه من احتلالٍ متغول، واستيطانٍ غاشم، ومجازر مروعة، ومخططات كبرى للإحلال الديني في القدس والمسجد الأقصى، وما يتصل بها من استهدافٍ مباشر لمقدسات فلسطين والأمة.
هذه الحالة التي تعيشها فلسطين، تدفع المتابع لمقارنتها مع واقع هذه البلاد المباركة في ظل الخلافة المباركة، وبكل تأكيد مع ما كانت الحال عليه إبان الحكم العثماني، ومقارنة واقع البلاد في تلك الفترة مع ما يجري حالياً.
كانت الدولة العثمانية دولة إسلامية عظيمة منذ تأسيسها، واعترتها على غرار غيرها من دول الإسلام حالات من القوة والضعف، ولكنها بقيت سداً منيعاً أمام المستعمرين وأذنابهم، ومن شواهد الأسس التي بُنيت عليها الخلافة العثمانية، ما نقلته كتب التاريخ عن وصية مؤسس الدولة عثمان بن أرطغرل لابنه أورخان، حيث ضمنت هذه الوصية دستوراً ومنهجاً أخلاقياً وشرعياً، سارت عليه الدولة العثمانية في مجمل سنواتها.
السلطان سليمان القانوني شكل نموذجاً ريادياً لاهتمام العثمانيين بفلسطين ومقدساتها
إذ يقول عثمان: «يا بني؛ إيَّاك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله ربُّ العالمين، وإذا واجهتْكَ في الحُكْم معضلة فاتَّخذ من مشورة علماء الدين موئلاً.. يا بني، أحطْ مَنْ أطاعك بالإعزاز، وأَنْعِمْ على الجنود، ولا يغرَّك الشيطان بجندك (بجهدك) وبمالك، وإيَّاك أن تبتعد عن أهل الشريعة.. يا بني، إنك تعلم أن غايتنا هي إرضاء الله ربِّ العالمين، وأنَّ بالجهاد يَعُمُّ نور ديننا كل الآفاق، فتَحْدُثُ مرضاة الله عز وجل.. يا بنيّ، لسنا من هؤلاء الذين يُقيمون الحروب لشهوة الحكم أو سيطرة أفراد؛ فنحن بالإسلام نحيا ونموت، وهذا يا ولدي ما أنت له أهل».
الاهتمام العثماني بفلسطين
شكل السلطان سليمان القانوني نموذجاً ريادياً لاهتمام العثمانيين بالقدس خاصة وفلسطين بشكل عام، فقد شهدت المدينة في عهده اهتماماً بالغاً من السلطان مباشرة، ويورد الرحالة الشهير أوليا جلبي نصاً لطيفاً حول سبب اهتمام السلطان بالمدينة، في سياق حديثه عن القدس عندما زارها عام 1082هـ/ 1672م، ويقول: إن القانوني قد رأي النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤية وقال له: «يا سليمان، سوف تحقق انتصارات كثيرة، ويجب عليك أن تنفق الغنائم على تزيين مكة والمدينة، وعلى تحصين قلعة القدس لتصد الكافرين إذا حاولوا احتلالها خلال حكم خلفائك.. وعليك أن تُزين صخرة الله، وأن تعيد بناء مدينة القدس».
وبعيداً عن دقة النقل، إلا أن القانوني قد اعتنى بالمسجد الأقصى عناية بالغة، ففي عام 935هـ/ 1528م تمت أول عملية لترميم مصلى قبة الصخرة، وفي عام 949هـ/ 1542م، أمر السلطان بتجديد عمارة قبة الصخرة، وبنى فيها 16 شباكاً من الزجاج المذهّب، ومن ثمّ أمر بكسوة مصلى قبة الصخرة المثمن بالقيشاني الأزرق المهيب، الذي اشتهرت به مساجد إسطنبول، وجدد في عمارة مجمل أبواب الأقصى وسوره، إضافة إلى إقامة سور القدس الباقي حتى يومنا هذا، وجرّ المياه إلى القدس، من خلال ربط المدينة بالبرك التي تُعرف حتى يومنا هذا باسمه «برك سليمان»، وأوقف على هذه المنشآت العديد من الأوقاف لصيانتها وعدم تعطلها.
وتابع السلاطين العثمانيون اهتمامهم بفلسطين والقدس حتى أواخر عهدهم، فقد ربطوا فلسطين بالخط الحديديّ الحجازي، الذي ربط بين إسطنبول والمدينة المنورة؛ ما سهل على المسلمين أداء فريضة الحج، وقبله تم مد خطّ سكة حديد عام 1892م بين القدس وميناء يافا، كما ربطت القدس بخطوط التلغراف مع مصر وبيروت وأوروبا، وأنشؤوا المستشفى البلدي في الشطر الغربي للمدينة عام 1891م، وإدخال الكهرباء إلى القدس في عام 1914م.
العثمانيون ربطوا فلسطين بالخط الحديدي الحجازي بين إسطنبول والمدينة المنورة
أما اليوم، تعمل أذرع الاحتلال على هدم الآثار الإسلامية في القدس وفلسطين، وتشويه متعمد لها، وبحسب مصادر فلسطينية؛ فقد هدمت سلطات الاحتلال منذ عام 1948م أكثر من 1200 مسجد، عدد منها يعود إلى الفترة المملوكية أو العثمانية، وحولت الكثير مما تبقى من مساجد إلى مخازن أو إسطبلات، وبعضها إلى أماكن للسُّكْر والعربدة، وآخر هذه المساجد قصف المسجد العمري في العدوان الهمجي على قطاع غزة، وما يتصل بهذه الجرائم المروعة من تدنيس لمقابر المسلمين، وبناء المشاريع الاستيطانية مقابر المسلمين وأوقافهم.
مواجهة الاستيطان اليهودي
بدأت محاولات التصدي للاستيطان اليهودي في فلسطين في عهد السلطان العثماني عبدالمجيد الأول، الذي أمر متصرفية القدس إعادة قطعة أرض في المدينة، اشتراها طبيب يهودي بريطاني، على أن يبيعها لأي مواطن من الدولة العثمانية، ومع تحايل اليهود بالتواطؤ مع القنصليات الأجنبية على الإدارة العثمانية، أصدر السلطان عبدالحميد الثاني قانوناً في مارس 1883م يحرم بيع الأشياء غير المنقولة في الدولة العثمانية لليهود الأجانب.
وفي عام 1884م، أصدر السلطان قراراً آخر منع بموجبه الهجرة اليهوديّة، مع السماح للأجانب منهم بزيارة فلسطين، على ألا تتجاوز إقامتهم فيها ثلاثة أشهر، وقد رفض السلطان عروض الحركة الصهيونية لشراء فلسطين، وإقامة دولتهم عليها، ودفع لقاء مواقفه هذه ثمناً باهظاً.
وفي مقابل هذه الجهود، فقد فتح الاحتلال البريطاني باب الاستيطان أمام يهود أوروبا، وتُشير المصادر إلى أن عدد اليهود في فلسطين قبل سقوط الخلافة العثمانية بلغ نحو 50 ألف يهوديّ، ومع نهاية الاحتلال البريطاني لفلسطين وصل إلى نحو 650 ألف مستوطن يهوديّ عام 1948م، وهو ما يُشكل نحو 29.5% من السكان، ولم تُسهم بريطانيا في رفع عدد المستوطنين فقط، بل سهلت على المستوطنين السيطرة على المزيد من الأراضي.
الاحتلال الصهيوني عمل على ترسيخ هوية يهودية في فلسطين عامة والقدس خاصة
ففي عام 1918م، بلغ مجموع الأراضي الفلسطينية التي كان يملكها اليهود 650 ألف دونم؛ أي ما يشكل 2% من إجمالي مساحة فلسطين، بينما ارتفعت النسبة إلى 8% عام 1948م، وهي الخطوات التي فتحت المجال أمام المستوطنين للسيطرة على أجزاء كبيرة من فلسطين من خلال القوة وتسريب الأراضي وغيرها.
ولم يشهد التاريخ الإسلامي في فلسطين أي اضطهادٍ ديني إلا في فترات زمنية قليلة جداً، وقفت خلفها أفكارٌ دخيلة باطنية، بينما نَعِمَ سكان فلسطين ومختلف بلاد المسلمين بالسماحة الدينية، في ظل مؤسسة الخلافة، وتُعطي سكان البلاد من الأديان المختلفة حريتهم الدينية، وتحمي الكنائس والكُنُس على حدّ سواء.
وفي هذا السياق، شهادة للباحث الفرنسي فانسان لومير، أنّ القدس حتى أوائل القرن العشرين لم تكن ميدان مناورات للمعارك القومية ولمصالح الدول الكبرى، وكانت بعيدة عن تحولها إلى جزء من الوقائع الجيوسياسية والمعارك الضارية، وما كان في القدس من انسجام بين سكانها من الأديان المختلفة قد ازدهر، بحسب لومير، في ظل السلطنة العثمانية التي امتدت سيادتها منذ عام 1517م، إلى أن حل محلها الاحتلال ثم الانتداب البريطانيان.
هذه الشهادة تؤكد ما عاشته فلسطين من سلامٍ وأمن في ظل الحكم العثماني، وكيف سمح نظام «الملة» المستند إلى الشريعة على فتح المجال أمام حراك اقتصادي وثقافي مميز، بينما قام الاحتلال الصليبي الفرنجي بقتل آلاف المسلمين والمسيحيين الشرقيين على حد سواء في القدس، ولم يكن نموذج الإقصاء الديني مقتصراً على الاحتلال الصليبي فقط، فقد عمل الاحتلال الصهيوني على ترسيخ هوية يهودية في فلسطين عامة وفي القدس على وجه الخصوص.