تُعرَّف الأسرة على أنها «الوحدة الأولى للمجتمع وأولى مؤسساته التي تكون العلاقات فيها في الغالب مباشرة، ويتم داخلها تنشئة الفرد اجتماعياً، ويكتسب فيها الكثير من معارفه ومهاراته وميوله وعواطفه واتجاهاته في الحياة، ويجد فيها أمنه وسكنه»(1).
بناء على ذلك، لا مجال للحديث عن أي مشاريع نهضوية للأمة بمعزل عن الأسرة، لأنها في الأصل النواة التي يتكون منها المجتمع، الذي هو بدوره مكون من مجموعة من الأسر.
دور الأسرة في عملية الإصلاح والنهوض
تتجلى أهمية دور الأسرة في إصلاح المجتمع ونهوضه، من خلال المقاصد التي أرادها الإسلام من تكوين الأسرة، ويأتي على رأسها:
أولاً: الحفاظ على المجتمع من الانحلال الخلقي:
لأنها تقوم على قاعدة ميثاق الزواج، الذي يحفظ الأنساب، وتضع الغرائز الفطرية في إطار نظيف، فمن ثم يسود العفاف، وتغدو الجرائم الأخلاقية نادرة لا تعبر عن اتجاه أخلاقي عام في المجتمع، وفي المقابل تعزز الأسرة السوية من القيم والأخلاقيات والفضائل التي جاء بها الإسلام.
ثانيًا: تحمل المسؤولية:
الرجل في هذا المحضن يلتزم بالقيام بمسؤولياته تجاه أسرته، ويعلم أن التهاون في هذا الشأن قد يعرض الأسرة للتفكك والانهيار، سواء القيام بمسؤولية الأعباء المادية المتعلقة بالنفقة، أو القيام برعاية الأبناء وملاحظتهم وتوجيههم، أو قيامه بمسؤوليته تجاه زوجته في كل ما يتعلق بمناحي حياتها باعتباره القائم عليها.
الأمر نفسه عند الحديث عن المرأة، التي ما إن ترتبط بهذه الوحدة الاجتماعية الصغيرة، حتى تبدأ في تحمل المسؤولية، فهي مسؤولة عن تربية أبنائها، وعن توفير سبل الراحة لزوجها.
وكذلك الأبناء، يتحملون في ظلال الأسرة مسؤوليات تجاه والديهم، من البر والطاعة في غير معصية، والإسهام في تحقيق الاستقرار الأسري عن طريق التزامهم تعاليم الإسلام وعدم الخروج عن أطرها، والسعي إلى النجاح في الحياة العملية ونحو ذلك.
تحمل المسؤولية داخل هذه الوحدة الاجتماعية الصغيرة، هو الذي يحرك المجتمع ككل في القيام بمسؤوليته تجاه دينه وبلاده وأمته لتحقيق رفعتها، فهي عملية تربية أولية على تحمل المسؤولية داخل إطار الأسرة، تصب في النهاية في صالح العملية النهضوية.
يقول فرج محمود أبو ليلى: «الأسرة هي المدرسة الأولى لتعليم الخير والصبر وتحمُّل المسؤولية بما تلقيه على عاتق أفرادها من مهام لا يستطيعون التهرب منها، ومن كتب الله له النجاح في تحمُّل التبعات الجسام للأسرة والقيام بمسؤولياتها سيكون راعياً في القيام بتبعات المجتمع الذي سيستظل بظله»(2).
ثالثاً: تعزيز روح التعاون وقيمة العمل الجماعي:
وهو متولد من الشعور بالمسؤولية، ذلك لأنه من المقطوع به ضرورة التعاون بين الأفراد من أجل الصالح العالم، وأول صور هذا التعاون هو تشارك الزوجين في تحقيق الاستقرار، تقول د. فاطمة عبدالرحمن عن هذه القيمة: «تتجلى هذه المعاني في العواطف والمشاعر بين الزوجين في السراء والضراء، فالزوجان يشتركان بروح المحبة في تهيئة الجو الصالح والعيش الهادئ لهما ولأفراد الأسرة جميعاً»(3).
ومن خلال التدرب في هذا المحضن على قيمة العمل الجماعي، ينتقل هذا السلوك في الوسط المحيط والمجتمع بأسره، فتسود قيمة العمل الجماعي في كل مجال وكل ميدان، وهذا هو عين المراد في عملية النهضة، التي تتم بتضافر الجهود والتنسيق بين الأفراد وبشكل تراكمي.
رابعًا: تربية الأبناء:
وهي أجلّ خصائص الأسرة ومقاصد تكوينها، فهي الحاضنة الأولى للطفل، وفيها تتشكل شخصيته وتصاغ ملامحها، ومن خلال الأسرة يتعلم الطفل أدوات التعامل مع الآخرين، والحقوق والواجبات، وتغرس فيه الصفات عن طريق التقليد قبل التوجيه، ولذلك على الوالدين إدراك أن مهمتهم ليست مجرد الإنجاب، وإنما إعداد هذا النتاج الطبيعي للزواج.
إعداد الأسرة لعملية النهوض
الأهم مما سبق هو مناقشة كيفية وضع الأسرة على طريق النهضة، وبرأيي أن هذا يتحقق من خلال حزمتين من الجهود، حزمة من الجهود تبذلها الأسرة ذاتها، وأخرى تتكامل معها وهي الجهود التي يبذلها المهتمون بعملية النهضة والمؤسسات الإصلاحية ومؤسسات المجتمع المدني.
جهود داخلية
ونلخص الملامح العامة لدور الأسرة في بناء نفسها وتأهيلها لعملية النهضة من خلال العناصر التالية:
أولًا: الاختيار السليم:
فعندما نتحدث عن أبناء صالحين فاعلين لا بد أن نتحدث عن الزوجين واختيار كل منهما شريك حياته، فتربية الأبناء وتنشئتهم تبدأ من حيث اختيار شريك الحياة، قال أبو الأسود الدؤلي لبنيه: «قَدْ أَحْسَنْت إلَيْكُمْ صِغَارًا وَكِبَارًا وَقَبْلَ أَنْ تُولَدُوا، قَالُوا: وَكَيْفَ أَحْسَنْتَ إلَيْنَا قَبْلَ أَنْ نُولَدَ؟ قَالَ: اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْ الْأُمَّهَاتِ مَنْ لَا تُسَبُّونَ بِهَا»(4).
ثانيًا: محو الأمية الشرعية والتربوية:
الأصل أن يعد الشاب والفتاة نفسيهما لمهمة تكوين الأسرة بالعلم الشرعي والعلم بكيفية تربية الأبناء، لكن لا يقال لمن تزوجوا دون حيازة هذا الفضل أن الوقت فات، فالمسلم مطالب ببذل الجهد، وأما الثمرة والنتيجة فهي ليست من شأن العبد، بل هي من أمر الله تعالى، فيلزم كل الآباء والأمهات أن يعملوا على محو الأمية الشرعية والتربوية.
ثالثاً: تحقيق معنى التقوى داخل الأسرة:
وحقيقتها كما قال التابعي طلق بن حبيب: «أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَخَافَ عَذَابَ اللَّهِ»(5).
وينبغي أن يسود في البيت المسلم مبدأ العمل الذي يتبع العلم، لا الاقتصار على حشد المعلومات الدينية، فالله تعالى دائماً يقرن بين الإيمان والعمل (الذين آمنوا وعملوا الصالحات).
رابعًا: تربية الأبناء على الاهتمام بقضايا الأمة:
وهذا ينبغي أن يتمثله الأبوان أولاً قبل أبنائهم، ليكونوا لهم قدوة ومثلاً في هذا الشأن، لا بد من تعويد الأطفال منذ نعومة أظفارهم على متابعة أخبار العالم الإسلامي وقضاياه، وربطهم بالتاريخ المجيد الذي يبرز لهم القدوات والأبطال العظام.
خامسًا: ربط الإنتاج والفاعلية بالدين:
لأنها من الدين، فدين الإسلام ليس ديناً خاملاً، بل هو يدعو إلى العمل والإنجاز وتعلم العلوم التجريبية وكل ما من شأنه أن تصلح به الحياة، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها»(6).
إن من الخلل الذي لحق بتصورات كثير من المسلمين، حصر الدين في المحاريب، والعلاقة الروحية بين العبد وربه، مع أن هذا الدين منهج للحياة يشمل جميع مناحيها.
جهد خارجي
وهو الجهد الذي تقوم به المؤسسات الإصلاحية والتنموية والمحاضن التربوية، والمهتمون بعملية النهوض، على أن ينصب الجهد في تطوير وتوعية وتنمية الأسرة على ثلاثة محاور؛ محور العقائد والتصورات، ومحور الأخلاقيات والقيم، ومحور الإنتاجية والفاعلية والإيجابية، فذلك هو ما يلزمنا للسير على طريق النهضة.
______________________
(1) نظام الأسرة في الإسلام، محمد عقلة، ص17.
(2) الزواج وبناء الأسرة، فرج محمود أبو ليلى، ص25.
(3) مهددات الأسرة المعاصرة، فاطمة عبد الرحمن، ص7.
(4) أدب الدنيا والدين، للماوردي، ص158.
(5) مجموع فتاوى ابن تيمية، (7/ 163).
(6) رواه البخاري في الأدب المفرد (479).