جُبل الإنسان على الاستياء من الملامة، حتى وإن كانت محقة، لذا نجد أن الإنسان بطبعه يبحث عن الأعذار إن أخطأ أو جانب الصواب حتى لا يلومه الآخرون، فلولا الأعذار لثبتت الملامة، وقد يبحث الإنسان عن الأعذار حتى يريح ضميره من الشعور بالذنب بسبب التقاعس والتقصير عن أداء واجباته، وقد يظهر أمام الناس معذوراً بحجج يبرر بها تقصيره، وقد تكون هذه الحجج والمبررات حقيقية بالفعل، وأحياناً قد تكون متوهمة، والأنكى أن تكون مختلقة لا تمت للحقيقة بصلة.
والعذر كما يقول الراغب في «مفرداته»: «تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه؛ إما أن يقول: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، فيذكر ما يخرجه من كونه مذنباً، أو يقول: فعلت ولا أعود، وهذا الثالث هو التوبة، فكل توبة عذر وليس كل عذر توبة» (المفردات، مادة «عذر»)، وقال ابن فارس في تعريف العذر: «هو روم الإنسان إصلاح ما أُنكر عليه بكلام» (مقاييس اللغة، مادة «عذر»).
وقد أخبرنا الله تعالى في سورة «التوبة» -تلك السورة الفاضحة الكاشفة التي تبرأت من المشركين وكشفت المنافقين- عن صنفين من الناس لم يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العسرة يوم «تبوك»، صنف اعتذر لعدم خروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم بحجج باطلة منها عدم الاستطاعة، ومنها خشية الوقوع في الفتنة، ومنها حرارة الطقس، وغلفوا هذه الحجج المصطنعة بأيمان كاذبة.
قال تعالى عن الصنف الأول: (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة: 42)، ولكن الله تعالى كشف زيفهم فوصفهم بالكذب ودحض حجتهم بقوله: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً) (التوبة: 46)، وقال تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي) (التوبة: 49)، ودحض الله تعالى حجتهم بقوله في بقية الآية: (أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ) (التوبة: 49).
وفي سبب نزول الآية، روى ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال: «سمعت رسول الله يقول لجد بن قيس: «يا جد، هل لك في جلاد بني الأصفر؟»، قال جد: أو تأذن لي يا رسول الله؟ فإني رجل أحب النساء وإني لأخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتن، فقال رسول الله الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنه: «قد أذنت لك»، فأنزل الله: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ).
وقد رد من برر تخلفه عن الجهاد بحرارة الطقس؛ (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ) (التوبة: 81)، قال تعالى: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة: 81)، وبين سبب تقاعسهم الحقيقي عن الجهاد في مطلع الآية؛ (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) (التوبة: 81).
قال سيد قطب في «الظلال»: «وقد كان بعض هؤلاء المعتذرين المتخلفين المتربصين قد عرض ماله وهو يعتذر عن الجهاد، وذلك ليمسك العصا من الوسط على طريقة المنافقين في كل زمان ومكان، فردّ الله عليهم مناورتهم وكلف رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن أن إنفاقهم غير مقبول عند الله تعالى؛ لأنهم إنما ينفقونه عن رياء وخوف لا عن إيمان وثقة، وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين، أو عن كره خوفاً من انكشاف أمرهم، فهو في الحالتين مردود لا ثواب له ولا يحسب عند الله؛ (قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ {53} وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة)، ثم يواصل الله تعالى كشف كذبهم ويبطل أيمانهم ويقطع صلتهم بالإسلام والمسلمين؛ (وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ) (التوبة: 56).
أما الصنف الثاني فقد قبل الله عذرهم لأنهم صادقون فيه، قال تعالى: (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {91} وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ) (التوبة)، فشتان شتان ما بين عذر كل صنف منهم.
وحال الأمة الآن إزاء معركة «طوفان الأقصى» تدور بين هذين الصنفين، صنف متخاذل لا ينفق من ماله لنصرتهم، وإن فعل فلذر الرماد في العيون، أو ليغطي على سوأته وتخاذله، بل وبعضهم ليغطي على فرحه بما يحصل من إبادة لهذه الثلة المجاهدة في سبيل الله، وإلى هؤلاء نقول كما قال الله تعالى: (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (التوبة: 66)، (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ) (التوبة: 62).
وصنف لا يجدون سبيلاً للحاق بالمجاهدين بأنفسهم إما لمرض، أو لضيق ذات اليد، أو لمنع من السلطات، فيجاهدون بألسنتهم وأموالهم، حتى يفتح الله لهم سبيلاً، وإلى هؤلاء نقول: «حبسكم العذر»، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد ترَكتُم بالمدينةِ أقوامًا ما سِرتُم مسيرًا ولا أنفَقتُم من نفقةٍ ولا قطعتُم من وادٍ إلَّا وَهم معَكم فيه»، قالوا: يا رسولَ اللَّه، وَكيفَ يَكونونَ معنا وَهم بالمدينة؟ فقال: «حبَسَهمُ العذرُ» (رواه أبو داود، والبخاري، ومسلم عن أنس بن مالك، واللفظ لأبي داود)، وفي بيان حكم هذا الصنف الذي حبسه العذر يقول الإمام العيني في «عمدة القاري شرح صحيح البخاري»، باب في بيان حكم من حبسه العذر، وهو الوصف الطارئ على المكلف المناسب للتسهيل عليه، وجواب من محذوف تقديره: «فله أجر الغازي» (عمدة القاري 14/ 133).
نعوذ بالله أن نكون من الصنف الأول المخادع المتربص، ونسأل الله تعالى أن يعذرنا، وأن يعطينا أجر الغزاة في سبيل، اللهم استعملنا ولا تستبدلنا.