عادة ما نلحظ محاولات من قبل المعادين لقضية القدس والمسجد الأقصى إلى خلط الأوراق ومحاولة ضرب قدسية المسجد الأقصى بالتوسع في تفاصيل صغيرة يحاولون من خلالها تضييع أساس القضية، حيث يدعون أن المسجد الأقصى المذكور في الآية الكريمة في «الإسراء» –الذي كان الإسراء إليه– ليس الموجود اليوم في القدس، وإنما هو مسجد يقع في قرية الجعرانة التي تقع على مسافة حوالي 30 كم شمال شرقي المسجد الحرام في مكة المكرمة.
وهذا الادعاء يصر عليه دائماً البروفيسور موردخاي كيدار، الأستاذ بجامعة بار إيلان المعروفة بتشددها الديني، ويشير إليه أيضاً الأكاديمي أوري روبين، وسبقهم جميعاً في ذلك المستشرق ألفريد غيوم، والغريب أن هذا الزعم وجد طريقه لبعض الأدباء العرب مثل يوسف زيدان (وهو أديب لا أكاديمي)، وصار يردده بعض الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي دون حتى أن يرجعوا إلى أصله ويراجعوه، ويبدو أن الأجندة السياسية أدت دوراً مهماً هنا، إذ لا سبيل لتفسير عدم رجوع بعض هؤلاء إلى الأصل لقراءة النص ومعرفة أصل هذا الادعاء، حيث اعتمد هذا الادعاء بالدرجة الأولى على رواية موجودة لدى الواقدي في كتابه الشهير «المغازي»، ولكن نظرة بسيطة لنص الواقدي تفضح ضحالة الفهم اللغوي الذي حدا بهؤلاء إلى اعتباره دليلاً على أن المسجد الأقصى يقع في الجعرانة لا في القدس!
فنص الواقدي يقول عن عمرة النبي صلى الله عليه وسلم أثناء رجوعه من حصار الطائف مروراً بالجعرانة: «فَلَمّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا، فَأَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الّذِي تَحْتَ الْوَادِي بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَكَانَ مُصَلّى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا كَانَ بِالْجِعِرّانَةِ، فَأَمّا هَذَا الْمَسْجِدُ الْأَدْنَى، فَبَنَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَاِتّخَذَ ذَلِكَ الْحَائِطَ عِنْدَهُ».
وهذا النص في الحقيقة يتحدث عن مسألةٍ مختلفةٍ تماماً، فمن عادة الواقدي في كتابه «المغازي» أن يشرح للقراء في عصره المواقع النبوية المختلفة على ما عُرِفت في عصره هو، وفي عصر الواقدي كان في وادي الجعرانة مسجدان؛ أحدهما في أقصى الوادي، والثاني في أدناه، وكان الناس يصلون في المسجد الذي في أدنى الوادي (أي المسجد الأقرب إلى البناء في قرية الجعرانة في زمن الواقدي)، ويظنون أنه هو المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عندما أحرم لعمرة الجعرانة، فيأتي الواقدي ليقول لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ في هذا المسجد، وإنما صلى في المسجد الذي في أقصى الوادي؛ أي المسجد الأبعد عن البنيان، ثم يؤكد ذلك بقوله: إن المسجد القريب الذي يقصده الناس في زمن الواقدي كان قد بناه رجلٌ من قريش، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم علاقة به!
هكذا ببساطةٍ يتبين أن أصحاب الدعاية المضادة لم يكن يهمهم في هذا النص إلا اقتطاع كلمة «المسجد الأقصى» ليبنوا عليها افتراضهم أن هذا هو المسجد المقصود في سورة «الإسراء»، بل إن مردخاي كيدار عندما يصرح بذلك في وسائل الإعلام وفي محاضراته يدعي أن الواقدي هو الذي قال ذلك! بينما النص واضح تماماً في تكذيب هذا الادعاء الضحل، والواقع أن السبب الوحيد الذي يمكن أن نفهم منه إصرار هؤلاء على ادعائهم هو ببساطةٍ ضعف حصيلتهم اللغوية العربية، ولذلك فإن ضعفهم اللغوي يجعل فعلهم هذا غير مستغرب، لكنه في الوقت نفسه يجعل المستهجن والمستغرب هو ترديد هذا الادعاء المتهافت من قبل بعض العرب من أتباع مدرسة الرواية الاستشراقية فيما يتعلق بالقدس، دون أن يكلف الواحد منهم نفسه أن يرجع إلى الواقدي ليقرأ كلامه.