لا يخفى على منصف أن الحركة الإسلامية ليست هي تلك الرموز المعروفة، أو الرتب التنظيمية والألقاب المشهورة فحسب، كما أن الحركة ليست هي تلك الرموز المتنازعة هنا وهناك، أو المختلفة أو المنشقة أو الغائبة أو الحاضرة، لا القديمة التليدة، ولا الوليدة الجديدة.
وليست الحركة الإسلامية، كذلك، هي تلك الجماعة بصفة خاصة وأفرادها المنتسبين لها، أو غيرها من التيارات العاملة في الساحة الإسلامية؛ بل هي تيار عريض في الأمة، قد لا ينتسبون لتيار بعينه، أو لجماعة بذاتها، ولكن تملكتهم عاطفة نحو دينهم صادقة، فأصبحوا يتوقون إلى يوم نصره، وساعة التمكين لمنهجه وقيمه، فاعتبروا أنفسهم جنوداً له، يتطلعون إلى من يأخذ بيدهم إلى تحقيق الأمل، ومن يستثمر طاقاتهم وإمكاناتهم في البذل والعمل.
منهم رجال لا يعرفهم الناس، ولكن يقيناً يعلمهم رب الناس، ومنهم نساء صادقات مباركات، لا يظهرن في المحافل، ولا تعرفهن الأندية ووسائل التواصل، ولكنهن كريمات على الله تعالى، حيث رزقهن محبة دينه، والارتباط بكتابه، والاقتداء بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
مستقبل المشروع الإسلامي مزهر وعوامل النجاح تحيط بجميع أطرافه
إنما الحركة الإسلامية، أو إن شئت قلت: المشروع الإسلامي، روح تسري في جسد الأمة، تتمثل في شباب يتوق إلى مرجعية الإسلام، والتحاكم الى شريعة الرحمن، وتحقيق وحدة الأمة وتطهير مقدساتها ورفع رايتها، على استعداد لبذل المُهج من أجل تلك الغاية السامقة، وتتمثل الحركة في نساء طيبات طاهرات يحملن عاطفة الإسلام ويعملن ليوم نصرته، ويحلمن بيوم رفعته، ويبذلن الغالي والرخيص في سبيل رفع رايته..
إن الحركة الإسلامية هي تلك القلوب الطيبة الممتلئة عاطفة للإسلام وأهله، التي تشرئب أعناقهم لذلك اليوم الذي تعلو فيه راية الإسلام، وكلمة التوحيد، ونور الهداية الربانية، وتتجسد الحركة في ثلة مباركة من رجالات الأمة ونسائها تربطهم رابطة الأخوة الإيمانية العميقة مهما اختلفت اللغات وتباينت الاهتمامات يتطلعون الى إقامة الدين ونشر رسالته في العالمين.
مستقبل المشروع الإسلامي
لذا، فإن مستقبل المشروع الإسلامي مزهر، وعوامل النجاح تحيط بجميع أطرافه، وعلى عكس ما يتصور كثير من الباحثين والمتابعين، فإن الظروف الآنية، والحالة الإسلامية الراهنة، تفتح للمشروع الإسلامي أبواب انطلاق غير مسبوقة، وفرصة ميلاد، وساحات عمل غير مطروقة.
فقد سقطت الكثير من الأقنعة عن بعض الأنظمة التي كانت تصارعه يوماً ما، وتحاول أن تنافسه بادعاء حمل رسالة الإسلام، وحراسة العقيدة، والتحقق بالقيم، فأضحت سراباً، بل خراباً! حيث ظهر نفاقها يوم أن انقلبت على كل مظاهر الإسلام، وحاربت قيمه، وتعدت على علمائه ودعاته، وأغلقت مؤسساته، واصطفت في منظومة أعدائه، فظهر للناس زيفها، وسقطت في العالمين مكانتها، فاتسع الميدان لينادي أهل الإيمان، أن اصطفوا، وأروا الله من أنفسكم خيراً.
.. ويتحقق بثورة على المناهج القديمة والمسميات الفارغة والأساليب الفاشلة
سقطت كذلك المنظمات الدولية التي ملأت الأجواء حديثاً عن الحرية والديمقراطية والقيم الغربية وحقوق الإنسان والحيوان، وحقوق الطفل والمرأة، فافتتن بها الكثير من شباب الأمة وفتياتها، وتأثروا بالدعايات والدعوات، وظنوا أن هذا هو النموذج الذي يجب أن يحتذى، وهذا هو المنهج الذي يجب أن يُنتسب إليه، فإذا بـ«طوفان الأقصى» تعرّي كل تلك الأنظمة والمؤسسات الدولية والمحلية، ليظهر للقاصي والداني أنها أبعد ما تكون عن القيم، وأخطر ما يكون على الإنسانية، وأجرم ما يكون بحق المرأة والطفل، فإذا بالشباب حتى من غير المسلمين يعودون مرة أخرى ليسألوا عن قيم الإسلام، ورحابة تشريعاته، وصدق دعوته، واتساع رحمته، ليجد المشروع الإسلامي نفسه أمام مد جديد، وفتح عجيب، وفرصة سانحة لجهد بنّاء، ونجاح مبهر، في إقامة الدين وحمل رسالة الإسلام.
ومن الفرص كذلك أن سقطت تلك الحركات التي كانت تزعم الوصاية على فهم الكتاب والسُّنة، وتزعم أنها على خطى الحبيب في كل شأن من شؤون حياتها، فإذا بها مع الأحداث تتراجع، بل تسقط وتتداعى، فانحازت للباطل بمسمياته المتنوعة، وكفرت بكثير من شعاراتها، وخالفت الكثير من مبادئها، وأفتت بعكس ما اعتقدت وأشاعت، ولم يكن لها من شغل إلا أن تهاجم المشروع الإسلامي؛ قيمه ومناهجه ورموزه، وتحاول تعطيل مسيرته بمحاولة الدخول معه في معارك فكرية تافهة، أو مظاهر عبادية لا مضمون لها، أو منازعات سياسية لا طائل من ورائها، فإذا بتلك الجحافل من الأسماء والمسميات والإمكانات يظهر للجميع كم هي صنيعة أنظمة البغي والاستبداد، وحجم خيانتها للمبادئ والأخلاق، ووثيق علاقتها وارتباطها وولائها لمنظومات الطغيان والفحش والإلحاد.
لتعود الساحة أمام المشروع الإسلامي مترامية الأطراف، تنادي المخلصين، وتفتح أبوابها للصادقين.
وغالباً ما يرى الناس أن كثرة الزبد وارتفاعه دلالة على ظهور الباطل وتمكنه، وغياب الحق وتأخره، إلا أن الحقيقة القرآنية تؤكد أن ظهور الزبد يدل على ارتفاع منسوب الخير، فكلما امتلأت أودية الخير؛ طفا الزبد على السطح، ليتأهب للذهاب والاختفاء، ويتأهل الحق للانطلاق والاتساع، وعموم النفع والارتقاء، قال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد: 17).
الأمة بحاجة إلى ضبط مفهوم المشروع الإسلامي وحدوده وغايته ومنهجيته
كذلك تراجعت الثقة في المؤسسات الدينية الرسمية، التي كانت في أغلب أحوالها تعارض المشروع الإسلامي، وتزعم أنها الأمينة عليه، والقائمة به، وأنها الأجدر بحمل رسالة الإسلام، وكانت في الوقت نفسه ترى أن جهود الحركة الإسلامية تخصم من رصيدها، وتقزم من مكانتها، وتحد من حركتها، فأضمرت وأظهرت العداء، ومكرت بها كل مكر، وتعاونت مع كل جبار وفاجر للقضاء على حملة المشروع الإسلامي، ولكن قوانين القرآن تأبى نجاح سعي المبطلين، فقد قال الله تعالى في أحد قوانين القرآن الكريم: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الإسراء: 81)، فالباطل لم يُكتب له طول البقاء، بل سرعان ما يكشف الله تعالى النفوس المدخولة، والقلوب المريضة، قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) (محمد: 29)، وقال تعالى: (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) (آل عمران: 179).
متطلبات المرحلة
من أجل ذلك يتأكد لنا أن المشروع الإسلامي يمتلك فرصة ذهبية ليعود لقيادة الميدان، والانطلاق بالأمة نحو وعد ربها بالريادة والتمكين، ولكن ذلك لا يتحقق إلا إذا قام المنتسبون للمشروع الإسلامي بثورة على كثير من المناهج القديمة، والوسائل العتيقة، والمسميات الفارغة، والأساليب الفاشلة.
لا بد من مراجعات أمينة، وإحداث تغيير حقيقي في النفوس والأنظمة والمعطيات والأهداف، بل إن الأمة بحاجة إلى ضبط مفهوم المشروع الإسلامي وحدوده وميدانه وغايته ومنهجيته، وكل ذلك لا يمكن تحقيقه إلا إذا تمت إعادة طرح الثوابت والمتغيرات على نحو شرعي متين، وبمنهجية عقدية قرآنية راسخة.
إن سنن الله لا تحابي أحداً، وقد أرسى القرآن قانون التغيير بوضوح لا يحتاج إلى الكثير من الشروح، قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
إن دين الله تعالى لا يحتاج إلى أحد من الناس، ولكننا من نحتاج إليه، فإذا لم نأخذ بالأسباب المتاحة، ونراعي السنن الربانية، ونَصْدُق الله تعالى في حمل رسالته وإقامة دينه، فإن سُنة الله القائمة حاضرة لا تغيب، قادمة لا تتأخر، قال تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: 38).