فرض الله عز وجل عبادة الحج على عباده وهي الركن الخامس من أركان الإسلام، فقال تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: 97)، ولقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيُّها الناسُ، قد فُرض عليكم الحجُّ فحُجُّوا»، فقال رجل من الصحابة: أيجب الحج علينا كل عام مرة يا رسول الله؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأعاد الرجل سؤاله مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو قلتُ نعمْ لوجبتْ، وما استطعتم»؛ ومن هذا الحديث نفهم أن الحكمة في جعل الحج مرة واحدة هو تيسير الله على عباده، وعدم المشقة عليهم: (إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 143).
والحج من العبادات الشاقة بدنياً، المكلفة مالياً، المجهدة جسدياً، فهي تحوي في مناسكها معظم العبادات القلبية والجسدية والنفسية، لذلك كان للحج المبرور أجر عظيم، وقد روى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».
الحج عبادة شاملة
والحج له خصوصية بين أركان الإسلام الخمسة تجعله كافياً في العمر مرة واحدة، ففيه كافة العبادات:
– فيه عبادة التوحيد الخالص وإعلانه للعالمين بتوجه المسلمين من كافة أنحاء الأرض بقلوب فارغة إلا من ابتغاء وحده، فقد أخرج الإمام مسلم من حديث جابر بن عبدالله الطويل في بيان صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: «فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيكَ، إن الحمدَ والنعمةَ لك والملكَ، لا شريكَ لك» (رواه مسلم).
– فيه الذكر الذي هو العبادة الأحب لله عز وجل: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة: 203).
– الحج جهاد للمرأة، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟، قَالَ: «لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» (أخرجه البخاري).
– الحج يشمل كافة العبادات، ففيه الصلاة والذكر والإنفاق والصيام والنحر لله وحسن الخلق وغيرها من العبادات القلبية.
– حصول النفع المادي والروحي كما قال سبحانه: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج: 28).
آراء العلماء في كفاية الحج مرة واحدة في العمر
وللشيخ يوسف القرضاوي رأي في مسألة فرض الحج بالعمر مرة واحدة، فيقول: الحج عبادة متميزة؛ لأنها عبادة بدنية ومالية، الصلاة والصيام عبادتان بدنيتان، والزكاة عبادة مالية، الحج عبادة تجمع بين البدنية والمالية؛ لأن الإنسان يبذل فيها جهداً ببدنه، ويبذل فيها ماله لأنه يسافر ويرحل فيحتاج لنفقات؛ لذلك نرى الحج هو الفريضة التي ذكر الله فيها من استطاع إليه سبيلاً: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).
والنبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر أركان الإسلام الخمسة ذكر: «وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً»؛ لأن كل إنسان قادر على أن يصلي أو يصوم، لكن ليس كل إنسان قادراً على أن يذهب إلى الأرض المقدسة؛ لذلك كان من رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعله مرة واحدة في العمر؛ لأن الله سبحانه لا يريد أن يكلف عباده شططاً، ولا أن يرهقهم من أمرهم عسراً، يريد الله بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، وما جعل عليهم في الدين من حرج، فالتكليف في الإسلام بحسب الوسع؛ (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)(1).
وأما الشيخ محمد صالح المنجد فيجيب عن سؤال عن أفضلية تكرار الحج والعمرة أم أداؤه مرة واحدة والتصدق بالمال في وضع استطاعة التكرار: أما الوجوب فلا يجب الحج إلا مرة واحدة في العمر، عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا»، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم»، ثم قال: «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» (رواه مسلم، 1337).
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَجُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ قَالَ: «بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» (رواه أَبُو دَاوُد (1721)، وصححه الألباني)
وأما الأفضلية فكلما أكثر المسلم من الحج فهو أفضل، حتى لو استطاع أن يحج كل سنة، وقد ورد الترغيب في كثرة أداء الحج، ومن ذلك: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: «إيمان بالله ورسوله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» (رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (رواه البخاري ومسلم)، وعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» (رواه الترمذي (810)، والنسائي (2631)، وصححه الشيخ الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1200)).
وبعد، فبالرغم من تلك الآراء لعلماء نجلهم، فإن الحج من العبادات التي تحمل أسراراً لا يدركها العقل الإنساني، وقد شرعه الله لأسباب منها البيّن لنا ومنها الغائب عن إدراكنا، لكن ما يجب التسليم به سواء عرفنا أو لم نعرف، هو الامتثال لأوامر الله عز وجل وتنفيذ أوامره التي نوقن أنها في صالح الإنسان في الدنيا والآخرة.
________________________
(1) إحدى حلقات برنامج «الإسلام والحياة» على قناة «الجزيرة»، وعلى صفحة الشيخ رحمه الله.