من حسن حظ دولنا العربية أنها تجمعها هوية واحدة، وجامعة، رغم تعدد قبائلها، وتنوعها، بل واختلاف أعراقها، أحياناً، ما بين عربي، وكردي، وبربري، وأفريقي، كل هذا ينصهر في الهوية الإسلامية الجامعة التي تستظل بلغة وثقافة عربية غالبة، ومن بين فريضة الجهاد دفاعاً عن الوطن والعرض والمال، ونخوة العرب استنفاراً لحماية هذه المقدسات؛ تشكل ذلك الدرع الواقي الذي يجب أن يلمع كسلاح، ودرع في مواجهة محاولات كسر الإرادة والهزيمة التي تلاحق أمتنا منذ الاستقلال، وحتى الآن.
والغريب أن هذه المنطقة يحكمها دين واحد، ويشكل أحد الأعمدة الرئيسة لهويتها، ولسان عربي غالب يمثل العمود الثاني للهوية، ومنطقة جغرافية واحدة لا تفصلها موانع طبيعية، وكل هذا يستظل بتراث عربي من قيم الفروسية، والاستنفار، وهذه مكرمة من الله تعالى، ولكننا كثيراً ما نتجرع طعم الهزيمة، ولا نستدعي كل تلك الموروثات الجديدة والقديمة، دفاعاً عن أوطاننا.
هزيمة العرب العسكرية في عام 1967م
عقب استقلال الدول العربية من الاستعمار في بداية الخمسينيات والستينيات، تسيدت الهوية القومية المسرح العربي، وتعلقت آمال شعوبنا، وطموحات شبابنا بمشروع نهضوي جامع في مواجهة اعتداءات صهيونية بمساندة غربية جامعة، وكان الخطاب القومي يلهب الجماهير من القاهرة وبغداد ودمشق محاولاً جمع الأمة حول تلك الهوية التي قدمت الانتماء الوطني على الانتماء الديني باعتباره أكثر شمولًا، حيث ضم المسلم والمسيحي، وهو الطرح الذي قدمه منظرو القومية العربية باعتباره الأشمل، والأكثر جدارة على حشد جميع مكونات الأمة للنهوض ضد المستعمر الجديد، وللوقوف ضد كل التحديات التي تواجه الأمة.
ولكن في 5 يونيو 1967م، تعرضت الأمة لضربة شاملة شاركت فيها «إسرائيل»، وأمريكا، ودول الغرب، للقضاء تماماً على المشروع القومي الذي ارتكب العديد من الأخطاء، وإن كان الهدف النبيل حول جمع الأمة تحت شعار القومية هو محاولة يائسة لإبعاد الصراع عن مربعه الديني؛ لأن العرب لا يملكون القوة والاستعداد لمواجهة الآخر دينياً.
جاءت الهزيمة التي احتلت بها «إسرائيل» سيناء والضفة الغربية والقدس وهضبة الجولان، وبدا الأمر وكأنه ضربة قاضية لأمة العرب، ولكن استدعاء المخزون الثقافي والديني والقيمي الذي ينطلق من الدين الإسلامي، ومن ثقافة العرب القديمة التي ترفض الهزيمة، وتتغنى بأمجاد النصر، كان أحد الأسلحة التي أشهرها العرب في مواجهة الهزيمة، كما أن استدعاء مفهوم الوحدة وتناسي الخلافات، وبدء ظهور خطاب ديني بالتوازي مع الخطاب القومي شكل ثنائي هوية قوياً في مواجهة هزيمة مريرة.
انتصار أكتوبر 1973م
هناك مفهوم عسكري يقول: إن الانتصار هو كسر إرادة العدو، وعلى الرغم من سيطرة «إسرائيل» على كل هذه المساحات، والسيطرة على وسائل الإعلام الدولية التي روجت لـ«إسرائيل العظمى»، والجيش الذي لا يقهر، وأجهزتها الأمنية المدعومة أمريكياً وغربياً، إضافة على تفاصيل حول حائط «خط برليف» الأسطوري المزود بقنوات لضخ النابالم الحارق في قناة السويس، إذا ما حاول المصريون عبورها، وسيطرة الصهاينة على هضبة الجولان بكل ارتفاعاتها، التي تستطيع وفقًا للدعاية الصهيونية تدمير دمشق من خلالها، على الرغم من الانهيار الاقتصادي الذي كان يلاحق دول المواجهة، ومعظم الدول العربية، فإن نداء «الله أكبر» الذي ألهب القلوب، والعقول، والوجدان العربي كان طريق الصمود العربي لكسر إرادة العدو، وإصابته بالرعب؛ لأن العرب استدعوا مخزون تراثهم الديني من الجهاد لاستعادة الأرض والحفاظ على العرض، ومن النخوة والشهامة التي استنفرت الأمة العربية كلها لتحارب بمالها ودعمها إلى جانب دول المواجهة.
لم يكن، إذاً، العرب قادرين على النصر إلا باستدعاء كل مفردات هويتهم من دين، وتراث عريق، وقيم جامعة، وتداعٍ في مواجهة العدو الواحد، وكان الانتصار العربي في السادس من أكتوبر 1973م هو انتصار الإرادة وليس القدرات العسكرية أو الاقتصادية، لأنه وفقاً لخطابات الرئيس أنور السادات في ذلك الوقت ولجميع التقارير الصحفية، وحديث قائد الانتصار اللواء سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان القوات المسلحة المصرية، كان الجيش «الإسرائيلي» يتفوق على الجيش المصري في جميع المجالات بنسبة 5 إلى 1، وكان الاقتصاد المصري يوشك على الانهيار، كما تباطأ الاتحاد السوفييتي السابق عن تزويد دول المواجهة بالأسلحة مقابل تدفق هائل وجسر جوي من مخازن السلاح الأمريكية والأوروبية إلى العدو الصهيوني.
ولكن علو مفهوم الاستشهاد والجهاد والدفاع عن الأرض والعرض نجح في عبور قناة السويس، وتجاوز النابالم وتدمير «خط برليف»، وتكبيد العدو أكبر هزيمة في تاريخه.
انتصار «طوفان الأقصى»
بعد نجاح الكيان الصهيوني في ترسيخ مفهوم النصر على جميع الدول العربية، حيث تفاخرت «تل أبيب» بمنتجاتها العسكرية والأمنية؛ التي تم تصديرها في المراكز البحثية باعتبارها الأفضل والأكثر حداثة في العالم، كما تربعت «إسرائيل» على قمة تقنيات التجسس.
وفي ذروة انتصاراتها، عندما نجحت في إقناع عدد من دولنا العربية بإقامة دين جديد أطلقوا عليه «الديانة الإبراهيمية» بقصد تسييدها وإحلالها بديلًا عن الدين الإسلامي، وعقدت في هذا الإطار العديد من معاهدات السلام التي تأسست على تلك الديانة الجديدة، وبدا الأمر وكأن الهوية العربية والإسلامية قد سحقت تحت أقدام الصهيونية العالمية، وأننا قاب قوسين أو أدنى من الاقتراب أن نتحول إلى عبيد يسخرهم اليهود في خدمتهم.
وأمام كل هذا الانكسار والهزيمة العربية، انطلقت من تحت الأرض ومن أعماق غزة مجموعات بشرية اختصها الله بأن تنزع من قلوبها الخوف والرعب، وتدوس بأقدامها على تلك الدعايات الرخيصة لتكسر الهزيمة وتعلو بإرادتها في السابع من أكتوبر 2023م، لتحقق أعظم انتصار ليس فقط على هذا التقدم العسكري المذهل، ولكن على هذا الانكسار الجلل الذي أصاب أمتنا.
لم تشكل «طوفان الأقصى» انتصاراً على التقنيات الحديثة من أسوار إلكترونية ومحطات تجسس تحت الأرض وفوق الأرض، وفي السماوات والبحار فقط، ولكنها شكلت انتصاراً للعقل العربي، وللإرادة العربية على الوهم الذي حاولت الصهيونية وأتباعها أن تسكرنا به حتى نسير قطيعاً تحت أقدامهم.
إنها ليست فقط إرادة الصمود، وحب الشهادة، وفريضة الجهاد، ونخوة العرب، ولكنها كل ذلك وفوقه اليقين بأننا على حق، وأنهم على باطل.