فعل الخير في الإسلام قرين الإيمان، وثمرة العبادة، وسبيل المؤمنين لأداء دورهم الرسالي في المجتمع الإنساني.
وإذا كان فعل الخير بمعناه الواسع مطلباً إنسانياً، وقيمة دعَت لها معتقدات البشر سواء السماوية منها أم الوضعية؛ فإن خصوصية الإسلام أنه انتقل بفعل الخير من مجرد فضيلة يتم الدعوة إليها، إلى قوانين ونُظُم اجتماعية قابلة للتطبيق، وهذه سمة من سمات الإسلام الفريدة؛ ينتقل بالمجتمع الإنساني من النظرية للتطبيق، ومن الإيمان إلى العمل به، ومن نوايا القلوب إلى عمل الجوارح.
لم يكتفِ الإسلام بحثِّ الأغنياء على التبرع بما تجود به أنفسهم على الفقراء، بل شَرَعَ زكاة على أموالهم، وبنسب محددة، ومصارف معينة، وجعلها حقاً للفقراء، وليس مجرد مِنَّة من الأغنياء، ولحفظ كرامة الفقراء وإعفائهم من الوقوف على أبواب الأغنياء، أنشأ مؤسسة خاصة اسمها «بيت المال»؛ وظيفتها استقبال المال من الأغنياء وتوزيعها على المستحقين.
ثم ينتقل من الفرض إلى الفضل؛ حيث باب الصدقات المفتوح فيما زاد عن واجب الزكاة، وحيث المتسع من المصارف، والفئات المستَحِقة.
ثم توسع في معنى الصدقة؛ ففي حديث النبي عليه الصلاة والسلام: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقةٌ، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقةٌ، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقةٌ، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقةٌ، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقةٌ، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقةٌ».
ثم تأتي الأوقاف لتجد فيها خصائص فريدة لأمة عظيمة تركت آثاراً باقية في كل الحواضر الإسلامية تُمثِّل علامة فارقة على حضارة قامت على نشر الخير؛ فأينما يمّمْتَ وجهك في المدن التي دخلها الإسلام تجد التكايا (لإطعام الفقراء والمنقطعين للعبادة وعابري السبيل)، والخانات (أماكن لسكني عابري السبيل)، والأسبلة (لسقيا المارة وعابري السبيل)، وتفننت تلك الحضارة في عمارة تلك المنشآت، وبمقدورك أن ترى آثارها حتى الآن في قلب أوروبا في بلاد البلقان وفي جنوب إسبانيا.
وشهد العالم الإسلامي أنواعاً فريدة من الأوقاف؛ منها ما ذكره ابن بطوطة في رحلته إلى دمشق قبل سبعمائة عام، حيث يقول: «رأيتُ مملوكاً صغيراً سقط من يده صحن فتكسر، فاجتمع عليه الناس وقال أحدهم: اجمع ما تكسر وتعالَ معي لصاحب أوقاف الأواني، فأعطي الكسور لصاحب الوقف، وأعطى صاحب الوقف للمملوك ثمن الصحن ليشتري غيره حتى لا ينكسر قلب الغلام إذا نهره سيده؛ فكان هذا الوقف جبراً للقلوب، جزى الله خيراً من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا» (ص 83 الجزء الأول طبعة المطبعة الأميرية ببولاق عام 1939م).
إن دين الإسلام لا يقف عند حدود الطقوس والعبادات؛ بل يربط بين الاعتقاد والعمل، وبين عمل القلب وعمل الجوارح، ولا يقف عند حدود الفرد، أو صومعة العبادة، بل يتعداها إلى الدور الجماعي للمؤمنين، ورسالتهم تجاه المجتمع الإنساني، ويحول عمل الخير من مجرد عبادة، أو عمل مرغوب، إلى برامج عملية لنظام حياة يعمل لرفاه الإنسان وحفظ كرامته.