الإسراف خلق قبيح، وذمُّه ثابت بالعقل، فإن الزيادة فيما من حقه الاقتصاد لا يُسوغه سليم العقل ولا مستقر النفس، وقد جاء دين الإسلام مرغبًا في كل حسن وناهيًا عن كل قبيح، وقد ذم الله عز وجل الإسراف والتبذير في كتابه الكريم، فقال عز من قائل: (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6)؛ قال ابن كثير: ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية إسرافاً(1).
وقال سبحانه وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: 141)؛ قال الطبري: السرف الذي نهى الله عنه في هذه الآية، مجاوزة القدر في العطية إلى ما يجحف برب المال(2).
وقال عز وجل: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)؛ قال السدي: ولا تسرفوا؛ أي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء، قال الزجاج: على هذا إذا أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف(3).
وقال السعدي: فإن السرف يبغضه الله، ويضر بدن الإنسان ومعيشته، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات، ففي هذه الآية الكريمة الأمر بتناول الأكل والشرب، والنهي عن تركهما، وعن الإسراف فيهما(4).
وقال تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً {26} إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (الإسراء)؛ قال ابن كثير: أي: في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته؛ ولهذا قال: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا أي: جحوداً؛ لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته؛ بل أقبل على معصيته ومخالفته(5).
ومن صور الإسراف:
1- الإسراف على النفس في المعاصي والآثام:
قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) (الزمر: 53)؛ قال القاسمي: جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والكفر، لا تيأسوا من مغفرته بفعل سبب يمحو أثر الإسراف (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)؛ أي لمن تاب وآمن، فإن الإسلام يجبّ ما قبله، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) توبوا إليه، (وَأَسْلِمُوا لَهُ) استسلموا وانقادوا له، وذلك بعبادته وحده وطاعته وحده، بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه)(6).
2- الإسراف في الطعام والشبع المفرط:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في تناول الطعام فقال: «ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، حسب الآدمي، لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس»(7).
قال القرطبي: من الإسراف الأكل بعد الشبع، وكل ذلك محظور، وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعاً فوق شبع، فإنك أن تنبذه للكلب خير من أن تأكله(8).
3- الإسراف في الوضوء:
عن عبدالله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد، وهو يتوضأ، فقال: «ما هذا السرف؟»، فقال: أفي الوضوء إسراف؟! قال: «نعم، وإن كنت على نهر جار»(9).
قال ابن القيم: وكان –أي النبي صلى الله عليه وسلم- من أيسر الناس صباً لماء الوضوء، وكان يحذر أمته من الإسراف فيه، وأخبر أنه يكون في أمته من يعتدي في الطهور(10).
4- الإسراف في المرافق:
الإسراف في المرافق مذموم أيضاً كالإسراف في الماء والكهرباء، ويعتبر من إضاعة المال، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال»(11)؛ قال المناوي: «إضاعة المال» هو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف وسبب النهي أنه إفساد والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس(12).
__________________________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 216).
(2) جامع البيان للطبري (9/ 614).
(3) معالم التنزيل للبغوي (2/ 164).
(4) تيسير الكريم الرحمن للسعدي (287).
(5) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (5/ 69)
(6) محاسن التأويل للقاسمي (8/ 293).
(7) رواه ابن ماجه (3349) واللفظ له، والترمذي (2380)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (5674).
(8) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ص24.
(9) رواه ابن ماجه (425)، وأحمد في المسند (7065)، واللفظ لابن ماجه، وصحح إسناده أحمد شاكر في مسند أحمد (12/ 23).
(10) زاد المعاد لابن القيم (1/ 184).
(11) رواه البخاري (1477)، ومسلم (593).
(12) فيض القدير للمناوي (7/ 3).