النصر لله ورسله والمؤمنين من عباده حقيقة لا شك فيها، فهذا أمر محتوم، حيث جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مبشرة به ومؤكدة عليه.
آيات وأحاديث تؤكد حتمية النصر للمؤمنين
لقد عبر القرآن الكريم في آيات كثيرة، عن حتمية النصر والانتصار لرسله وللمؤمنين، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55)، وقال سبحانه: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40)، وقال عز وجل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ {171} إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ {172} وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات)، وقال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).
وفي السُّنة النبوية الشريفة تأكيد على نصر الله تعالى للمؤمنين، ففي صحيح البخاري عن خباب في حديث شكواه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وإلى حَضْرَمَوْتَ، مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تستعجلون»؛ ففيه دليل على أن الدين غالب منتصر، وسيتمه الله تعالى، ولن تحول قوة دون تمكينه، وسيعم الأمن من خلاله.
كما روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ»؛ أي يسخر لهذا الدين من ينصره، ولو كان هذا الناصر كافراً أو جباراً.
وفي صحيح مسلم عَنْ ثوبان قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ زَوى -أي قرّب وصغر- لي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأحمر والأبيض».
وفي صحيح مسلم عن ثوبان أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»، وروى أحمد في مسنده عَنْ تميم الداري قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مدر ولَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ».
تنوع مظاهر النصر للمؤمنين
إن وعد الله بالنصر للمؤمنين حق، وللتأكيد على ذلك نبين مظاهر النصر وأشكاله المتنوعة، وذلك فيما يأتي(1):
أولاً: النصر قد يكون بالغلبة المباشرة والقهر للأعداء على أيدي الأنبياء والرسل عليهم السلام، كما حصل لسيدنا داود عليه السلام؛ (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {250} فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة).
وكذلك نبي الله موسى عليه السلام، فقد نصره الله تعالى على فرعون وقومه، قال تعالى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة: 50)، وقال عز وجل: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (الأعراف: 137).
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، نصره الله تعالى نصراً مؤزراً، وأهلك أعداءه في «بدر» وما بعدها، حتى قامت دولة الإسلام، ثم دخل مكة فاتحاً، قال تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) (الفتح: 1)، وقوله تعالى: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ {1} وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً) (النصر).
ثانياً: النصر بإهلاك المكذبين ونجاة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، ومن آمن معهم، كما هي الحال مع أنبياء الله نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، حينما كذبهم أقوامهم، فأهلكهم الله تعالى، كل حسب ذنبه، كما في قوله تعالى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت: 40)، إن أخذ المجرمين بالعذاب الأليم، هو نصر عظيم للنبي أو للداعية، وكبت وخذلان وخسران للمكذبين والمجرمين، فنجاة الأنبياء وهلاك المجرمين هو نصر واضح لا غبار عليه.
ثالثاً: الانتصار بانتقام الله من أعدائهم ومكذبيهم، بعـد وفاة هؤلاء الأنبياء والرسـل، كما حدث مع من قتل نبي الله يحيى عليه السلام، وأشعياء عليه السلام، ومحاولة قتـل نبي الله عيسى عليه السلام، قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51)، كأن الله يقول: من صور النصر، انتقامنا في الحياة الدنيا من مكذّبي الرسل بعد وفاة رسولنا، كالذي فعلنا من نصرتنا أشعياء بعد مهلكه، بتسليطنا على قتله من سَلَّطنا، حتى انتصرنا بهم من قتلته، وكفعلنا بقتلة يحيى، من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم(2).
رابعاً: ما يتصوره الناس أنه هزيمة، كالقتل والسجن والأذى والطرد، فقد يكون هو النصر الحقيقي، أليس قتل الداعية شهادة في سبيل الله؟ قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (آل عمران)، وقال تعالى: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ {26} بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يس)، وقوله سبحانه: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (التوبة: 52)، فقتل الداعية في ضوء هذه الآيات، انتصار له أيما انتصار، وهو انتصار لمنهجه وظهوره، كما حدث لعبد الله الغلام، عندما قتله الملك، فقال قومه: آمنا بالله رب الغلام.
أما الطرد والإخراج، فقد يكون انتصاراً للداعية، بينما يتصور كثير من الناس أنها هزيمة، لذلك قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، حين أخرجته قريش من مكة طريداً، قال تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).
وكذلك السجن يعد انتصاراً، ففي صحيح مسلم، عن صهيب الرومي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له».
وقد عبر شيخ الإسلام بن تيمية عن هذه الحقيقة، بقوله: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة(3).
خامساً: ثبات الداعية على منهجه، فهو انتصار باهر وفوز ساحق، فبثباته يعلو على الشهوات والشبهات، ويجتاز العقبات بشجاعة، فنبي الله إبراهيم عليه السلام، وهو يلقى في النار كان في قمة الانتصار، والإمام أحمد عندما ثبت على مبدئه في محنة القول بخلق القرآن، كان في قمة الانتصار، فالانتصار هو الثبات على الدين وعلى المبدأ، مهما كانت العقبات والمعوقات.
___________________________
(1) أساليب التصدي لدعوة الأنبياء والرسل في القرآن الكريم: د. عبدالحميد فرحان مصلح، ص 211.
(2) تفسير الطبري (20/ 345).
(3) المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 153).