في خِضَم النوازل الهائلة، والهوائل النازلة بأمة الإسلام، وفي أتون النيران المشتعلة في تلابيبها منذ عقود طويلة، التي استعر أوارها في السنوات الأخيرة، وبما أن تشخيص الداء، وتوصيف الأعراض؛ لا يخفى على أحد بحكم أنه واقع تلفح نيرانه عقولنا ونفوسنا كل يوم، بل كل لحظة؛ يأتي هذا المقال محاولاً التوصل إلى جذور المحنة، وسبر أغوارها، وإماطة اللثام عن خلفياتها وخباياها.
مصدر الداء وجذور المحنة
يكاد الواقع الضال البائس للبشرية بوجه عام، ومعطيات الواقع المؤلم لأمتنا الإسلامية بوجه خاص أن ينطقا منذ أمد بعيد بأن ثمة مؤامرة كبرى حيكت، وما زالت، على البشرية جمعاء وفي القلب منها الإسلام وأهله، بيد أن هذه المؤامرة وصلت اليوم، أو كادت، إلى أكثر مراحلها شراً واتساعاً وتجبراً؛ لأنها قائمة على تراكم هائل عبر حلقات التاريخ الإنساني؛ أضعف الروح الإنسانية ولوّثها، وأنهك ضميرها، وأرهق عقلها، ونكَس فطرتها؛ عدا نسبة صغيرة هي أقلّ القليل، فضلاً عن استغلال أقطاب هذه المؤامرة للتطور التقني البشري في العصر الراهن وسيطرتهم على آلياته ووسائله المتعددة فائقة القدرة على الوصول والتوصيل والنشر والانتشار، ومن ثم التحكم والتوجيه والحشد والتجييش؛ مما دفع رؤوسهم الخبيثة للاعتقاد يقيناً بأن ساعة الضربة القاضية قد أوشكت.
وتؤكد جميع الشواهد –المُساقة في السطور القادمة- أنه رغم عالمية المؤامرة من حيث الاستهداف؛ فإن ثقلها الأساس، في حلقتها المعاصرة خصوصاً، منصبّ على الإسلام وأهله، ولنكن صرحاء وواضحين؛ فالمقصود هنا هو الإسلام السُّني تحديداً؛ لأسباب جوهرية نظنها معلومة لكل متابع مدرك مدقق.
أقطاب المؤامرة
لا نتعجب من أن الشيطان هو رأس المؤامرة وقائدها الأول، ثم تمثل الماسونية العقل الذي يستلهم المنطلقات والغايات ويخطط وينفذ، ثم الصهيونية ربيبة الماسونية وأهم مكوناتها وأكثرها خبثاً ومكراً وإجراماً، ومع أن المكوِّن اليهودي -الإجرامي النافذ وليس جميع اليهود طبعاً- هو أساس الصهيونية وقوامها، إلا أن الفكر الصهيوني تجاوز كل شيء، بل إنه استغل -وما زال- اليهودية، ونسبياً المسيـحية؛ بغرض الحشد والتعبئة النسبية، كماً وكيفاً؛ في الإطار الماسوني الحاكم الذي يسير خلف إبليس ويمهد لظهور المسيخ الدجال.
لا يرتبط هذا النهج الشيطاني بأي ديانة، بمعنى أنه ليس فكراً دينياً معيناً متطرفاً مثلاً، بل هو على عداء مع جميع الشرائع السماوية؛ حتى وإن أظهر غير هذا لضرورات التستر وسهولة التوغل والنفاذ ونحوهما، إنما هو فكرٌ شيطانيٌ بحت.
الغاية والأهداف
الغاية من هذه المؤامرة هي وضع التحدي الشيطاني: (فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (ص: 82)؛ موضع التنفيذ، فإبليس يحارب الله في أرضه، ولا يريد أن يذهب إلى الجحيم وحده، بل يريد أن يحمل معه أكبر عدد ممكن من أبناء آدم.
أما الأهداف الموضوعة للوصول إلى هذه الغاية؛ فتتمثل في التالي:
1- القضاء على فكرة الألوهية والأديان؛ مبتدئين بتمييع المفهومين، وإضعاف قدسيتهما في نفوس القطاع الأكبر من أبناء الجنس البشري بوجه عام، ومدخلهم الرئيس في هذا إلى النفوس والعقول -التي تم تمهيدها مسبقاً بالوسائل التالي ذكرها للتعاطي مع هذا الفكر الشيطاني والانسياق خلفه- أن الألوهية ليست سوى فكرة اخترعها أو توهمها العقل البشري المرهَق، وأن الأديان لا تعدو كونها أساطير تم اختلاقها في هذا الإطار، ثم استغل بعض الأذكياء هذه الأديان لتحقيق السيطرة والصيت والوجاهة والاتباع.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف؛ اعتمد أقطاب المؤامرة جميع الوسائل؛ حتى إن خيالهم الشيطاني تفتّق عن استغلال فكرة «الحرية» وشغف الشعوب بها، لا سيما الشعوب الغربية؛ لأنها الأقوى ولكونها النموذج الملهم لغالبية أبناء الشعوب الأخرى، ثم القضاء على قدسية الألوهية والدين انطلاقاً منها ذاتها؛ أي الحرية بمعناها الموسع المسموم؛ حتى وصلوا إلى ما نراه ونسمعه حالياً؛ من زعزعة لفكرة الدين والألوهية من أصلها في عقول غالبية البشر ونفوسهم؛ بما في ذلك جمهور عريض من أهل الكتاب الذي تحول أفراده إلى ملحدين.
2- تلويث الفطرة الإنسانية عموماً وتجريدها من أي قيمة أو نموذج صالح، حتى ولو كان معياراً معنوياً في النفوس، وقد نجحوا في هذا إلى حد بعيد، فنتجت أجيال لا تستحي من السير عراة تماماً، حتى الآن في بعض المناطق كشواطئ العراة وغداً سيكون في الشارع وفق تخطيطهم أيضاً، أجيال لا ترى مشكلة في معاشرة أمهاتهم وشقيقاتهم جنسـياً، واغتصاب الأطفال وممارسة الجنس مع الحيوانات إلى آخر هذه الرذائل البشعة، أجيال تسعى فقط للذة والشهوات المادية بمختلف أشكالها، بل إياها فقط تعبد.
الوسائل والآليات
أما عن وسائلهم الرئيسة في الوصول إلى مآربهم؛ فتتمثل في السيطرة على العالم بمقدراته، وعلى البشرية بروحها وعقلها وفطرتها، وسوق أبناء آدم كقطيع من العبيد مغيبين معميين عن الحقائق؛ عبر إغراقهم بالجنس والمخدرات ومختلف الشهوات والمُلهيات؛ بما فيها تلك التي تبدو مُلهيات بريئة مثل مسابقات كرة القدم ونحوها، وهذا النهج أظهرُ في تعاملهم مع شعوب الغرب ومن لفّ لفهم من شعوب العالم.
في حين أن هناك شعوباً تم لجمها بواسطة القوى الخشنة الداخلية المسيطرة عليها؛ تلك القوى التي فتحت على شعوبها جميع الأبواب والنوافذ –جهلاً بالمآرب الحقيقية أحياناً وعمداً ومشاركة في أحيان أخرى– ليغمرها طوفان منهمر من الداخل والخارج بلا انقطاع؛ معبّأ بالضلالات التي تهدف إلى تلويث وجدانهم، وتسطيح وعيهم، وتزييف تاريخهم وقلب حقائقه، وخلخلة عقلهم الجمعي، فضلاً عن الشبهات الخداعة التي تضرب أبناء هذه الشعوب في صميم دينهم؛ عبر تشويه علمائهم الربانيين، والتشكيك في تراثهم؛ بالتزامن مع الترويج للأيديولوجيات والفلسفات والصيحات الفكرية غريبة المنبت خبيثة المأرب؛ بعناوينها الجذابة البراقة وباطنها المشبَّع بالانسلاخ من الهوية، وقطع الصلة بالجذور؛ من وجودية، وعلمانية، وحداثة، ونسوية.. إلخ؛ التي هي نسق شيطاني بامتياز.
فضلاً عن أن الماسون عمدوا إلى زرع الخلافات، وإحداث الفتن بين عدد كبير من هذه البلدان وبعضها بعضاً، ناهيك عن استثارة النعرات الإثنية والطائفية والمذهبية، بل واللغوية بين مكونات البلد الواحد، كما عملوا على إفقار هذه الشعوب رغم ثراء مواردها وإلهائها باللهاث خلف لقمة العيش التي تتوارى خلفها ميول جارفة للشهوات والاستهلاك تم زرعها في وجدانهم رغم فقر غالبيتهم، إضافة إلى تغييبهم بشتى أنواع الإلهاء كغيرهم أيضاً، وهذا هو نهج الماسون المتبع مع الشعوب المستضعفة بطبيعة الحال، لا سيما في الشرق وعلى الأخص شعوبنا العربية والإسلامية؛ في معظمها، والاستثناءات نادرة.
وفيما يتعلق بمجتمعاتنا العربية والإسلامية تحديداً؛ فمما يؤسف له أن من أُوكِل إليهم التنفيذ الفعلي لهذه المهام الشيطانية القذرة على أرض الواقع؛ هم نفر من أبناء هذه المجتمعات ذاتها؛ يقدمون أنفسهم وتقدمهم وسائل الإعلام في بلادنا، زوراً، على أنهم من النخبة الفكرية والثقافية! بيد أنهم ليسوا سوى مسوخ وعملاء فتنهم الماسون في دينهم وعقولهم وضمائرهم، غالبيتهم مؤهلون لهذا من الأصل بما لديهم من ميول نفعية دنيوية وحب آسر للظهور والشهرة والمال والنفوذ بأي ثمن حتى لو على حساب دينهم وأبناء جلدتهم، والحق أن هؤلاء العملاء -علموا حقيقتهم هذه أم جهلوها- قاموا بمهمتهم الشيطانية هذه على أكمل وجه منذ عقود طويلة وما زالوا.
وبعد أن نجحت وسائلهم وأدواتهم هذه في تحقيق نسبة هائلة من أهدافها في مختلف الساحات والميادين في شتى أصقاع العالم؛ بفضل سيطرتهم على مفاصل السياسة الدولية، وعصب الاقتصاد العالمي، ووسائل الإعلام عبر العالم؛ بمخالبهم القوية وبخبرات وجهود متراكمة على مدار قرون؛ لم يعد هؤلاء الشياطين يلقون مواجهة حقيقية وصلبة إلا من الإسلام السُّني وأهله، خصوصاً المسلمين المتمسكين بدينهم الملامسين روحه المدركين جوهره ومنطلقاته ومقاصده على وجهها الصحيح، ثم نخص من بين هؤلاء من يعون توجهات الأحداث الكبرى ويدركون حقيقة هذه المؤامرة الشيطانية.
أما عن الأسباب التي دفعتنا للجزم بأنها مؤامرة إبليسية على هذا النحو؛ من حيث الغاية والأهداف، وليست مجرد مسلك بشري تنتهجه بعض القوى الكبرى والجهات المتوغلة النافذة عالمياً؛ للسيطرة على مقدرات الشعوب، أو غالبيتها، وضمان استمرار تحكمها وسيادتها وثرائها وفوقيتها، وكذلك الأسباب التي تجعل الإسلام وأهله هم العقبة الوحيدة الكأداء أمام هذا المشروع الشيطاني، بالإضافة إلى مدى نجاح هذا المشروع حتى الآن، واستشراف نتائجه المستقبلية.. إلخ؛ فهذا ما سنكمله في الجزء الثاني من هذا المقال بحول الله.