تمثل إحدى إشكاليات التأريخ المعاصر أنه يضطر إلى تناول أحداث كبرى لم تتضح أبعادها بعد، ولذا فإن التصور النهائي للأحداث يستغرق وقتاً تتكشف فيه تفاصيله ودوافعه ومآلاته، وتظهر فيه وثائقه وأسراره، وهي وثائق تحاول الأطراف الصانعة للحدث السيطرة عليها، والاحتفاظ بها مدى حين، وبعض الدول تحجب ما تراه من وثائقها 10 سنين أو 20 و30، وربما أكثر.
لقد كانت «طوفان الأقصى» حدثًا ضخمًا زلزل كثيرًا من القناعات المستقرة، وفرض واقعًا جديدًا لا تزال أبعاده تستبين، وتترك تأثيراتها على المحيطين الإقليمي والدولي؛ مما دفع الباحثين إلى تناوله بالرصد والتحليل دون انتظار لسفور نتائجه وآماده، وأولى الناس بالنظر فيه والإفادة منه هم المسلمون عامة، والعرب القريبون من محور حدوثه خاصة، والإسلاميون المنشغلون بالدعوة والتربية والحركة بالدرجة الأولى، حيث تمثل وقائعه وأصداؤه إغراء بالنظر والدرس، بل تدفع إلى ذلك دفعًا كونها إضاءة ساطعة في ظلمات الواقع العربي القاتم، وطاقة من الأمل والفخر بعد عقود من الإحباط واليأس، فاقم منه تردي الأوضاع بعد نتائج «الربيع العربي».
ومن المؤكد أن تختلف زوايا النظر إلى ذلك الحدث الكبير، فالتاريخ حمَّال أوجه، وللمؤرخين نوازع شتى، ومدارس متباينة، ومن الصعب أن تتفق رؤى الإسلاميين والعلمانيين والعروبيين القوميين، أو منطلقات الثوريين ودعاة التغيير مع دعاة التطبيع والاستسلام للواقع المرير في تقييم «طوفان الأقصى» بعد نحو عام من فيوضه.
ولعل الأجدى بنا -حين نقرر تقديم الحدث الكبير في ميادين التعليم والتربية- أن نبحث عن القواسم المشتركة الجامعة، كما أنه من الأهمية الواجبة أن نتحرر من الهيمنة السياسية على مؤسسات التعليم في بلادنا، وفرض الرؤية السياسية الحاكمة عليها، وبخاصة في القضايا العامة التي تجتمع حولها الأمة، وفي أولياتها القضية الفلسطينية وتحرير «الأقصى»، وأن تصبح إرادة البناء النفسي للأمة وأجيالها القادمة بما يتفق مع هويتها مطلبًا تربويًا غير منازع، تتوافق من أجله مستهدفات التعليم وقيمه الحاكمة.
ومن منظور القيم البانية نجد عطاءات ثرّة لـ«طوفان الأقصى»، حيث برهن على قدرة هذه الأمة على الانبعاث والصحو، مهما طالت غفلاتها، وعلى ترتيب أولوياتها وفرض صوابيتها رغم ركام الزبَد والغثاء، فما أبعد حال الجماهير العريضة من الأمة قبل بدء المعركة عن حالها واهتماماتها بعدها.
لقد برز اليقين بأن تحرير الأرض واستعادة «الأقصى» ودحر العدو وإنهاء الاحتلال وإزالة دولته.. كل ذلك ليس أمرًا مستحيلاً -كما صورته أدبيات زمن الهزيمة والاتضاع العربي- لو انفتحت من حولها الجبهات المتخاذلة، والقوى المتواطئة، وتحررت الشعوب المتشوقة إلى شرف التحرير والجهاد.
وبرز دور التربية العقدية في صياغة الإنسان المسلم في فلسطين، واختياره طريق المقاومة والجهاد، وهو طريق عظيم الكلفة، خطير التبعات، بالنظر إلى عطن الواقع العربي وكساده، وسريان عدوى التطبيع مع العدو، والانكفاء على الذات القطرية الضيقة، وتوديع قضايا الأمة الكبرى، وتهافت المطامح والأهداف والغايات التي أفلح الاستعمار العالمي في إشغالنا بها، وتسويقها لنا.
لقد رأينا قوافل المجاهدين يتصدرهم حفاظ القرآن الكريم، وأبناء المساجد وحلق الذكر ودروس العلم، فأبهروا العالم بإقبالهم على الشهادة في سبيل الله، مع ضعف العدة، وقلة العدد، وشدة الجوع، وندرة الناصر، وتقدم القادة صفوف الشهداء، وقدموا التضحيات العزيزة من أنفسهم، وبنيهم، وعائلاتهم، فما عاد الباحثون عن القدوة يستطيلون أمد التاريخ لنحدثهم عن أبطال الصحابة والتابعين، وعن خالد، وعمرو، وعن صلاح الدين، وبيبرس، وهم يرون أمامهم القدوات والأسوات؛ (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 23).
ولم يكن حصاد التربية والعلم مقتصرًا على النخبة القائدة، أو القوة المجاهدة، بل إن عامة الشعب الغزي ضرب أمثلة هائلة خالدة في الصبر ودعم المقاومة، واحتضان أبنائها، واستعصت الحاضنة الشعبية في غزة والضفة على محاولات التطويع والترهيب، وقدمت طائعة عشرات ألوف الشهداء راضية، وكان شعار الواحد منهم «كلنا مشاريع شهادة».
وتتالت نماذج القيم التي تحتاجها معاهدنا العلمية والتربوية، وعلى رأسها قيمة الاعتماد على النفس في البناء الحضاري، فأبهر المجاهدون العالم بصمودهم بأسلحة صنعوها وطوروها في أنفاقهم، في ظل حصار خانق على مدى عقود، ورأى الناظرون صاروخ «القسام»، و«الجعبري»، وقذيفة «الياسين 101»، وبندقية «الغول».. وغيرها، يتلو عليها المجاهد قوله تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 17)، فتخترق «الميركافاه»، وناقلات الجنود والجرافات المصفحة، ويستمر التصنيع والصمود على مدى ما يقرب من عام حتى الآن، مستعلية على مخازن السلاح العربي في الجيوش المتخاذلة التي يأكلها الصدأ!
ولا تقل تلك المعجزة مجدًا عن نجاح المقاومة في مباغتة العدو بكل ما لديه من تكنولوجيا وسلاح وتحصينات يوم السابع من أكتوبر في مفاجأة إستراتيجية أبهرت العالم حتى الآن، ولا يقل هذا وذاك عن نجاح معجز في منع العدو طوال العام من الوصول إلى أسراه المحتجزين لدى المقاومة، متفوقين على كيد أجهزة مخابرات العدو والعالم الداعم له، بدوله العظمى، وجحافل قواته، التي لا تبرح سماء غزة باحثة عن ثغرة خلل ينفذون منها، وينقذون ماء وجوههم.
ويمتد التفوق النوعي الذي حققته المقاومة الإسلامية إلى تطويع الجغرافيا غير المواتية لمسيرة الجهاد، بهندسة الأنفاق، والصبر العجيب في حفرها وتوزيعها وتعمية آثارها، واتخاذها منطلقات غزو، ومراكز تدريب، ونقاط للقيادة والتحكم وإدارة القتال.
إن ما قدمته «طوفان الأقصى» من دروس تحتاجها أجيالنا في معاهدها وجامعاتها لم يقتصر على الجوانب العسكرية والمجتمعية، بل إن الإدارة السياسية للصراع من أهم ما يحتاج إلى التأمل والدرس، لقد حرص قادته على استمرار التواصل مع محيطهم العربي والإسلامي، بالرغم مما لاقوه من جحود وأسى، ومن خذلان وقعود، وأداروا مفاوضاتهم السياسية الصعبة على نحو مثير للإعجاب، ووظفوا العمل العسكري والعمل السياسي والتفاوضي في منظومة متكاملة لا تزال صامدة، في مواجهة عدو تمرس على اللجاجة والخصومة والجدل ونصب الفخاخ.
إن معركة «طوفان الأقصى» لمَّا تصل إلى نهايتها، وما زالت تداعياتها تشغل العالم، وتتفاعل في احتمالات مفتوحة، غير أن نجاحات تحققت، مع عظم التضحيات، وشدة البلاء.. لقد عادت قضية التحرير للأرض المغتصبة والمسجد الأسير تفرض نفسها على أجندة السياسة العالمية، وانكشفت سوءات الاحتلال والدول الداعمة له، وتمزقت غلالة الديمقراطية وحقوق الإنسان التي أجادت دولة الصهاينة والغرب التستر بها، وشهدت شعوب الأرض على شاشات التلفاز المجازر ضد المدنيين العزل، والمذابح ضد الأطفال والنساء، وتحويل غزة إلى أنقاض وركام، مع إفلاس أخلاقي عالمي مقيت، وتعرض أصحاب الضمير في شعوب أوروبا وأمريكا -التي تظاهرت غضبًا من وحشية الاحتلال وداعميه- إلى ضروب من البطش والعدوان على حرياتهم، واتضح للناظرين البعد العقائدي والحضاري للصراع، وهو ما اجتهد الغرب والصهيونية العالمية في إخفائه طوال العقود الماضية.