حينما علمت هاجر أن زوجها إبراهيم عليه السلام يمضي في طريقه بأمر الله تعالى، واستجابة له، في تلك اللحظة تيقنت أن الله عز وجل لن يضيعها، هذا اليقين جاء في وقت صعب جداً، حيث إنها امرأة مع رضيعها إسماعيل عليه السلام في أرض قاحلة من الشجر والبشر ولا ماء فيها.
كل أسباب الضعف اجتمعت عليهما، فالهلاك لا محال سيدركهما؛ ورغم ذلك لم تطلب منه أن يبقى معهما، وألا يغادرهما، إنما ثبتت بيقين كان أكثر ثباتاً من الجبال الراسيات بأن الله تعالى لن يضيعهما.
اليوم المشهد يتجدد في حرائر غزة، فهن يخضن أعظم الحروب نصرة للإسلام والمسلمين.
كل واحدة منهن تحمل في قلبها اليقين ذاته بأن الله تعالى لن يضيعها حينما يغادرها زوجها تودعه بنظرات حانية، لكنها تحمل القوة وهي تهمس في أذنه: امضِ في سبيل الله، والله لن يضيعنا.
العالم حينما يريد أن يثني على المرأة يصفق لها بأنها نصف المجتمع، وهم لا يعلمون أنها في غزة المجتمع كله؛ فهي الشهيدة، والأسيرة، والمقاومة، وأم الشهيد، وأم الأسير، والجريحة، وأم الجرحى كذلك.
هي ذاتها الأم الحنون والزوجة الهنية المخلصة لزوجها، وهي نفسها من تمسح سلاحه بعد كل معركة.
تمنح مقاومها القوة قبل أن يخرج إلى التدريب، ومن ثم إلى المعركة، تعلمه أن الجهاد الذي يحبه الله تعالى هو الجهاد في سبيله كما قال في كتابه العزيز: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة : 244).
و«أم أسامة» خنساء غزة علمت جيداً معنى الجهاد في سبيل الله تعالى فقدمت خمسة من أبنائها شهداء ربتهم على الجهاد، فكان لأسمائهم نصيب من ذلك؛ فشهيدها الأول اسمه أسامة تيمناً بأسامة بن زيد، أما شهيدها الثاني حمزة تيمناً بحمزة بن عبدالمطلب، أما شهيدها الثالث فكان أحمد تيمناً باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد استشهدوا مع شقيقتهم جراء، قصف منازلهم على رؤوسهم فلم يتبق لهم جثمان للوداع، ولم تستطع والدتهم أن تلقي عليهم نظرة أخيرة، أما شهيدها الخامس الذي استشهد بعد إخوته بأيام من الجهاد عبادة؛ فكان اسمه تيمناً بعبادة بن الصامت.
لا عجباً لصمودها، فقد علمتهم الجهاد في سبيل الله تعالى، فهي تدرك خطواتهم وتحثهم عليها، فالإيمان في قلبها كبير جداً؛ لأنها تدرك دورها المهم في المعركة، فالأمر الذي زادها صبراً وثباتاً في البقاء على أرض غزة، يقينها أن الله تعالى مع غزة وأهلها، وأن هذه المعركة بين الحق والباطل.
نزوح وصمود
لم تكن معركة واحدة تخوضها نساء غزة؛ بل كانت معارك متزاحمة، ورغم ذلك لم تنل من عزيمتها وإن كانت تحملت بها الكثير من الوجع والمعاناة.
معركة هجوم جنود الاحتلال على البيوت واعتقال الرجال، وإجبار النساء والأطفال للنزوح القسري من غزة إلى مناطق الجنوب من أجل تحقيق هدف إخلاء غزة والسيطرة عليها، وبالأدق من أجل كشف ظهر المقاومة، ويكون الاستهداف لهم أسهل وأكثر وضوحًا.
فخاضت المرأة في غزة معركة النزوح، وهي لا تعلم شيئاً عن مصير زوجها وأبنائها الشباب، لتسير بخطوات مثقلة متعبة نحو الجنوب داخل خيمة تفتقد لأبسط مقومات الحياة.
ومع ذلك صمدت وحاولت وجاهدت، واستمرت بالعطاء، لتحتفظ على بقاء وجودها في المعركة، رغم استهداف صواريخ الاحتلال لخيمتها وارتقاء أطفالها.
وقد ارتقت كذلك ابنتها وعائلتها في شمال غزة ولم تستطع أن تودع ابنتها بعد أن حرمت من رؤيتها لعام، ومع ذلك بقيت صامدة؛ بل تثبت أمهات الشهداء وتقوي من عزيمتهن وتذكرهن بمكانة الشهيد وأجر الصبر كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {153} وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ {154} وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة).
الاعتقال لم يقتصر على الرجال، فكان للنساء نصيب من ذلك القهر والظلم، حيث كبلت ووضعت في معتقلات لا تصلح للحياة، حرمت من الطعام والماء، حرمت من الحصول على دواء مرضها المزمن، هجمت على أجسادهن الكلاب البوليسية، منع عنها الحصول على أبسط حقوقها باحتياجاتها الصحية، الأمر الذي جعلها تنزف على جسدها دما بدون أي مراعاة بأنها امرأة.
معركة التجويع
نالت منها مراراً معركة التجويع المتعمدة من قبل الاحتلال للضغط عليها من أجل النزوح، حيث نفد الطحين والطعام؛ الأمر الذي أدى إلى نزول مؤشرات الأوزان بشكل واضح، ومع ذلك ما زالت صامدة، فلولا صمودها وثباتها لعام بل أعوام، فغزة تعاني من الاحتلال والحصار وحروب سبقت «طوفان الأقصى»؛ لهزمت غزة.
رغم مرور عام من التجويع والقصف والدمار والحرمان والاستشهاد، فإن غزة ما زالت صامدة ثابتة راسخة أكثر بكثير من رسوخ الجبال الراسيات، وما زالت مقاومتها تدك حصون الاحتلال.
أسرار الصمود
كثيرا ما يدور في أذهان العالم كيف لغزة أن تصمد أمام الاحتلال الذي ينفق المليارات على جيشه وأسلحته؟!
من الصعب لأي محلل سياسي أن يحلل الوضع القائم في غزة، ولكن نقول: إن غزة في معية الله تعالى، فالمشاهد على أرض الواقع يتيقن بذلك حيث جاء في كتابه العزيز: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (الفتح: 7)، الله عز وجل له جنود في السماوات والأرض يؤيد بها عباده المؤمنين، وهذا الأمر واضح في غزة.
هذه المعية جعلت نساء غزة أكثر صموداً ورسوخاً وقوة في دفاعها عن عقيدتها وإسلامها ووطنها، فهي امرأة واعية تدرك مهمتها لنصر إسلامها العظيم، تدرك أن معركتها مع الاحتلال ليس من أجل وطن وطين فحسب؛ بل عقيدة ودين.
توقن أن الله معها وسيعينها على هذا الثبات، حيث جاء في كتابه العزيز: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (الأنفال: 12).
هذا جعلها تختار خطواتها بعناية ليس منذ بداية تربيتها لأبنائها؛ بل سبق ذلك في قبولها بزواج رجل مقاوم، وهنا المقاومة لا تقتصر على حمل السلاح فحسب؛ بل في كافة الميادين التي يحتاج له الوطن.
منذ طفولة أبنائها المبكرة علمتهم على موائد القرآن، علمتهم آيات الجهاد، وعلمتهم أن هذا الدين عظيم يستحق أن نقدم له كل غال، علمتهم الشجاعة والقوة.
تدرك أن الحمل ثقيل، لكنها توقن أن الله تعالى وعدها بالنصر والثبات حيث جاء في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).