في عصر تغلبت فيه الماديات على الروحانيات، وسحقت فيه مطالبُ الجسد مطالبَ الروح، يتساءل الناس: أين الطريق إلى الله تعالى؟!
اهدنا الصراط المستقيم
إن الطريق إلى الله تعالى ميسر لكل من وفقه الله بالسير على هذا الطريق؛ ولهذا أمرنا الله عز وجل بأن نسأله الهداية، قال تعالى: (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) (الفاتحة: 6).
قال ابن القيم: في قوله تعالى: (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) طلبُ الهداية ممن هو قادر عليها وهي بيده سبحانه وتعالى إن شاء أعطاها عبده وإن شاء منعه إياها، والهداية معرفة الحق والعمل به، فمن لم يجعله الله تعالى عالماً بالحق عاملاً به لم يكن له سبيل إلى الاهتداء، فهو سبحانه المتفرد بالهداية الموجبة للاهتداء التي لا يتخلف عنها، وهي جعل العبد مريداً للهدى محباً له مؤثراً له عاملاً به، فهذه الهداية ليست إلى مَلَك مقرَّب ولا نبي مُرسل وهي التي قال سبحانه وتعالى فيها: (إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ) (القصص: 56)، مع قوله تعالى: (وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى: 52).
فهذه هداية الدعوة والتعليم والإرشاد وهي التي هُدي بها ثمود فاستحبوا العمى عليها، وهي التي قال تعالى فيها: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهم حَتّى يُبَيِّنَ لَهم ما يَتَّقُون) (التوبة: 115).
فهداهم هدى البيان الذي تقوم به حجته عليهم ومنعهم الهداية الموجبة للاهتداء التي لا يضل من هداه بها، فذاك عدله فيهم وهذه حكمته فأعطاهم ما تقوم به الحجة عليهم ومنعهم ما ليسوا له بأهل ولا يليق بهم.
والهداية هي العلم بالحق مع قصده وإيثاره على غيره، فالمهتدي هو العامل بالحق المريد له، وهي أعظم نعمة لله على العبد؛ ولهذا أمرنا سبحانه أن نسأله هداية الصراط المستقيم كل يوم وليلة في صلواتنا الخمس، فإن العبد محتاج إلى معرفة الحق الذي يرضي الله في كل حركة ظاهرة وباطنة(1).
ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين
وإذا كان الله تعالى أمرنا بأن ندعوه ليهدينا سواء السبيل، فإنه تعالى أمرنا في هذه الآية الكريمة: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) (الذاريات: 50) بأن نفر إليه تعالى.
وهذه الآية الكريمة من أعظم آيات القرآن الكريم، حيث إنها تجمع بين معاني الخوف والرجاء: الخوف من الله تعالى، واللجوء إليه سبحانه، إذ لا منجا منه إلا إليه عز وجل، أمر بالفرار منه إليه ليدل العباد على أنه أرحم بهم من كل من سواه، وأنه عز وجل يريد بالعباد الرحمة والمغفرة.
قال الإمام الطبري: يقول تعالى ذكره: فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ)، ثم يقول: إني لكم من الله نذير، أنذركم عقابه، وأخوّفكم عذابه الذي أحلَّه بهؤلاء الأمم الذين قصّ عليكم قصصهم، والذي هو مذيقهم في الآخرة.
وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم، وفروا منه إليه واعملوا بطاعته.
وقال الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شيء دون الله، فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه، وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن، وقال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل، ففروا إلى الله يمنعكم منه.
وقال ذو النون المصري: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر، وقال عمرو بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم(2).
وقال العلامة عبدالرحمن السعدي: لما دعا العباد للنظر لآياته الموجبة لخشيته والإنابة إليه، أمر بما هو المقصود من ذلك، وهو الفرار إليه تعالى؛ أي: الفرار مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا، إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا، فرار من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى ذكر الله، فمن استكمل هذه الأمور فقد استكمل الدين كله، وقد زال عنه المرهوب، وحصل له نهاية المراد والمطلوب.
وسمى الله الرجوع إليه فرارًا؛ لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب والأمن والسعادة والفوز، فيفر العبد من قضائه وقدره إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه فررت منه، إلا الله تعالى؛ فإنه بحسب الخوف منه، يكون الفرار إليه؛ (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)؛ أي: منذر لكم من عذاب الله، ومخوف بَيِّنُ النذارة(3).
هكذا يكون الطريق إلى الله تعالى بطلب الهداية منه سبحانه وبالفرار إليه.
إلا أن الطريق إلى الله تعالى محفوف بالعوائق التي تعيق سير المسلم إلى الله، فما هذه العوائق؟ وكيف نتجنبها؟
هذا ما سنتناوله، إن شاء الله تعالى، في هذه السلسلة.
____________________________
(1) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن القيم (1/ 181).
(2) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (17/ 53-54)، بتصرف.
(3) تيسير الكريم الرحمن، عبدالرحمن السعدي، ص811، بتصرف.