لله تعالى حِكَم بالغة فيما يجريه من أحوال الخلق، وبالنظر لما يحدث في فلسطين، فلربما يتساءل البعض عن سبب استمرار الكرب وتأخر الفرج، ولكن حينما تتبين الأمور، إما في الحال أو في المآل، سنعلم حينها أن ما قدّره الله هو لحكمة، وهو الخير، ولو كَشف الله الغطَاء لِعبده وأظهر له كيف يُدبّر له أمره، وأنه أرحم به من أمّه، لذاب قلب العبد محبة لله وشُكراً.
ولأجل هذا فقد كان الأنبياء والصالحون يسلّمون لله في قضائه لعلمهم بحكمته، ويتذكرون عند الملمّات اسم الحكيم، أولم يقل يعقوب عليه السلام حين فقد أولاده الثلاثة؛ يوسف وأخاه، والمتخلف من أجل أخيه، القائل: فلن أبرح الأرض؛ (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 83)، يقول: فصبري على ما نالني من فقد ولدي، صبرٌ جميل لا جزع فيه ولا شكاية، عسى الله أن يأتيني بأولادي جميعًا فيردّهم عليّ (إنه هو العليم) بوحدتي، وبفقدهم وحزني عليهم، (الحكيم) في تدبيره خلقه. (تفسير الطبري).
وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم
ويقول ربنا وهو أصدق القائلين: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)؛ وهذه الآية عامة في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر. (تفسير السعدي).
فالخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره، والشر ما زاد ضره على نفعه، وإنّ خيراً لا شر فيه هو الجنة، وشراً لا خير فيه هو جهنم، فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى (تفسير القرطبي)، وقصة موسى مع الخضر في سورة «الكهف» تعطي أمثلة لحكم الله الباهرة.
كان فراق يوسف لأبيه وهو يتيم الأم وإلقاؤه في الجب سبباً لملكه لمصر؛ (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 100).
كان خروج موسى وحيداً من وطنه خائفاً يترقب سبباً لنجاته في مدين وزواجه وإعداده للرسالة؛ (يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (النمل 9).
كان حادث الإفك خيراً، فقد قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) (النور: 11)، والخير لِما تضمن ذلك من تبرئة أم المؤمنين، والتنويه بذكرها، حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولِما تضمن من بيان الآيات التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة (تفسير السعدي)، ثم قال عز وجل: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {17} وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (النور).
ربما منعك فأعطاك
إن الموت والحياة، الفقر والغنى، المرض والصحة، الهبة والعقم، الداء والدواء، الهزيمة والنصر، كلها تحدث لحكم بالغة، ولو كان لديك وقت مديد ونفَس طويل وبحث دقيق لمتابعة هذه الأمور لوجدت أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.
«ربما اعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، ومتى فتح لك باب الفهم في المنع صار المنع عينَ العطاء، فربما منعك الله المال فرزقك القناعة والرِّضا، لا تقل: حرمني؛ ولكن قل: لطف ورحمني، لا تقل: حرمني ما أريد؛ ولكن قل: حرمني من شؤم ما أريد ليُعطيني لطف ما يريد؛ لأنني عبدٌ لمشيئة حكيم فعَّال لما يريد، ربما أعطاك المال فمنعك الطاعة، ربما أعطاك الأبناء، فمنعك الأنس بذكره وقربه، وبالعكس؛ فربما أعطاك عِزَّ الدنيا ومنعك عِزَّ الآخرة، وربما أعطاك إقبال الخَلْق عليك، ومنعك من الأنس بالملك الحق، وربما أعطاك المنصب والمال، ومنعك من الراحة واحترام الناس لك.. وهكذا قل ما شئت» (الحكم العطائية).
أما سمعت عمن يريد السفر فمُنع أو تأخر سفره فتكدر، وما علم أن القطار وقع له حادث؟
أما رأيت خاطباً رُفِض، وحزنت المخطوبة، ثم لما تزوجت بآخر جعل حياتها سعيدة؟
أما علمت بتاجر طرده شركاؤه، فسخط، ثم جاءت الأخبار بخسارة التجارة وإفلاس الشركة؟
أما صادفت طالباً استاء لأنه لم يدخل الكلية التي يريدها، ولكنه تفوق في التخصص الآخر وصار أستاذاً فيه؟
عن عبداللهِ بن مَسعودٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ قَسَمَ بينَكُمْ أَخلاقَكُمْ كما قَسَمَ بيِنَكُمْ أرزاقَكُمْ، وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُعْطِي الدُّنيا مَنْ يحبُّ ومَنْ لا يحبُّ، ولا يُعْطِي الدِّينَ إلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فمَنْ أعطاهُ الدِّينَ فَقدْ أحبَّهُ» (صححه الحاكم ووافقه الذهبي).
أصبح المنع من زخارف الدنيا هو عين العطاء؛ لأن الله منع عنك ما يشغلك عنه؛ مثل المريض الذي يمنعه أهله من لذيذ الطعام والشراب، لماذا؟ حبًّا له، ورغبةً في سرعة شفائه وتعافيه؛ وليس كراهية له، فالمريض يتألَّم من المنع، والمنع هو عين العطاء له، حيث يسرع منع لذيذ الطعام والشراب في زوال المرض ومجيء الصحة والعافية، وهذا المعنى قد أشار إليه الحديث النبوي: «إنَّ الله تعالى ليحمي عبده المؤمن وهو يحبُّه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه» (رواه أحمد، وصححه الألباني).
من حِكم الابتلاء
قال الله تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء: 35)؛ أي: نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى، لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، وعن ابن عباس: نبتليكم بالشر والخير فتنة، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية والهدى والضلال (ابن كثير).
لهذا الابتلاء حكم منها ظهور آثار أسمائه القهرية، وظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره.
ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك، فلو قدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب، وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر. (العقيدة الطحاوية).
الشريعة حكمة كلها
كانت تلك حكمة الله في خلقه، أما حكمته في أمره فالشريعة فمبناها وأساسها على الحكمة ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها. (ابن القيم).