يبدو الأمريكي -على الرغم من العلم المتقدم والعمل المتقن- بدائياً في نظريته إلى الحياة، ومقوماتها الإنسانية الأخرى بشكل يدعو إلى الدهشة، ولعل لهذا التناقض الواضح أثره في ظهور الأمريكان بمظهر الشعب الغريب الأطوار في نظر الأجانب، الذين يراقبون حياة الشعب من بعيد؛ ويعجزهم التوفيق بين هذه الحضارة الصناعية الفائقة، وذلك النظام الدقيق في إدارة الأعمال، وإدارة الحياة، وبين هذه البدائية في الشعور والسلوك، تلك البدائية التي تذكر بعهود الغابات والكهوف!
يبدو الأمريكي بدائياً في الإعجاب بالقوى العضلية، والقوى المادية بوجه عام، بقدر ما يستهين بالمثل والمبادئ والأخلاق، في حياته الفردية، وفي حياته العائلية، وفي حياته الاجتماعية –فيما عدا دائرة العمل بأنواعه، وعلاقات الاقتصاد والمال– ومنظر الجماهير وهي تتبع مباريات كرة القدم، على الطريقة الأمريكية الخشنة التي ليس لها من اسمها كرة القدم أي نصيب، إذ إن القدم لا تشترك في اللعب، إنما يحاول لاعب أن يخطف الكرة بين يديه، ويجري بها ليقذف بها إلى الهدف، بينما يحاول لاعبو الفريق الآخر أن يعوقوه بكل وسيلة، بما في ذلك: الضرب في البطن، وتهشيم الأذرع والسيقان، بكل عنف وكل شراسة، منظر الجماهير وهي تتبع هذه اللعبة، أو تشاهد حفلات الملاكمة والمصارعة الوهمية الدامية، منظرها في هياجها الحيواني، المنبعث من إعجابها بالعنف القاسي، وعدم التفاتها إلى قواعد اللعب وأصوله، بقدر ما هي مأخوذة بالدم السائل والأوصال المهشمة، وصراخها هاتفة: كل يشجع فريقه: حطم رأسه، دق عنقه، هشم أضلاعه، اعجنه عجناً، هذا النظر لا يدع مجالاً للشك في بدائية الشعور التي تفتن بالقوة العضلية وتهواها.
وبمثل هذه الروح يتابع الجمهور الأمريكي صراع الجماعات والطوائف، وصراع الأمم والشعوب، ولست أدري كيف راجت في العالم والطوائف، وصراع الأمم والشعوب، ولست أدري كيف راجت في العالم –وبخاصة في الشرق– تلك الخرافة العجيبة، خرافة أن الشعب الأمريكي شعب محب للسلام!
إن الأمريكي بفطرته محارب محب للصراع، وفكرة الحرب والصراع قوية في دمه، بارزة في سلوكه؛ وهذا هو الذي يتفق مع تاريخه كذلك، فقد خرجت الأفواج الأولى من أوطانها قاصدة إلى أمريكا بفكرة الاستعمار والمنافسة والصراع، قاد بعضهم بعضاً وهم جماعات وأفواج، ثم قاتلوا جميعاً سكان البلاد الأصليين (الهنود الحمر) وما يزالون يحاربون حرب إفناء حتى اللحظة الحاضرة، ثم قاتل العنصر الأنجلو سكسوني العنصر اللاتيني هناك، وطرده إلى الجنوب في أمريكا الوسطى والجنوبية، ثم حارب المتآمر كون أمهم الأولى إنجلترا في حرب التحرير بقيادة جورج واشنطن حتى نالوا استقلالهم عن التاريخ البريطاني، ثم حارب الشمال الجنوب بقيادة إبراهام لنكولن تلك الحرب التي اتسمت بسمة «تحرير العبيد» وإن كانت دوافعها الحقيقية هي المنافسة الاقتصادية، ذلك أن العبيد المستجلبين من أواسط أفريقيا ليعملوا في الأرض رقيقاً، لم يستطيعوا مقاومة الطقس البارد في الشمال، فنزحوا إلى الجنوب، وكان معنى هذا أن يجد المستعمرون في الولايات الجنوبية الأيدي العاملة الرخيصة، على حين لا يجدها الشماليون، فيتم لهم التفوق الاقتصادي؛ لذلك أعلن الشماليون الحرب لتحرير العبيد!
وانقضت فترة العزلة، وانتهت سياستها، عندما دخلت أمريكا الحرب العالمية الأولى، ثم اضطلعت بالحرب العالمية الثانية، ثم ها هي تنهض بالحرب في كوريا، والحرب العالمية الثانية ليست بالبعيدة! ولست أدري كيف راجت تلك الخرافة العجيبة عن شعب هذا تاريخه في الحروب؟
إن الحيوية المادية عند الأمريكي مقدسة، والضعف –أياً كانت أسبابه– جريمة، جريمة لا يغتفرها شيء، أو كن ضعيفاً فل يسعفك مبدأ، ولا يكون لك مكان في مجال الحياة الفسيح، أما الذي يموت فيرتكب بالطبع جريمة الموت ويفقد كل حق له في الاهتمام أو الاحترام، ليس أنه قد مات؟
كنت في مستشفى جورج واشنطن في واشنطن العاصمة، وكان الوقت مساء حينما غمرت موجة من الاضطراب غير معهودة، وبدت فيه حركة غير عادية تستلفت النظر، وأخذ المرضى القادرون على الحركة يغادرون أسرتهم وحجراتهم إلى المماشي والأبهاء يستطلعون؛ ثم جعلوا يتحلقون متسائلين عن سر تلك الظاهرة في حياة المستشفى الهادئة، وعرفنا بعد فترة أن أحد موظفي المستشفى قد أصيب في حادث مصعد، وأنه في حالة خطيرة بل أنه في دور الاحتضار، وذهب أحد المرضى الأمريكان ليرى بنفسه، ثم عاد يقص على المتحلقين في الممشى ما رأى، وحين يخيم شبح الموت على مكان، لا تكون له رهبة، ولا يكون للموت خشوعه كما يكون ذلك في مستشفى، ولكن هذا الأمريكي أخذ يضحك ويقهقه، وهو يمثل هيئة المصاب المحتضر، وقد دق المصعد عنقه، وهشم رأسه، وتدلى لسانه من فمه على جانب وجهه! وانتظرت أن أسمع أو أرى علائم الامتعاض والاستنكار من المستمعين، ولكن كثرتهم الغالبة جعلت تضحك متفكهة، بهذا التمثيل البغيض!
لذلك لم أعجب وبعض أصدقائي يقص عليَّ ما رأى وما سمع، حول الموت ووقعه في نفوس الأمريكان.
قال لي زميل: إنه كان حاضر مأتم، حيثما عرضت جثة رب البيت محنطة في صندوق زجاجي –على العادة الأمريكية– كيما يرى أصدقاء الفقيد بجثمانه، ليودعوه الوداع الأخير، ويلقوا عليه النظرة النهائية، واحد بعد الآخر في صف طويل، حتى إذا انتهى المطاف وتجمعوا في حجرة الاستقبال؛ ما راعه إلا أن يأخذ القوم في دعابات وفكاهات، حول الفقيد العزيز وحول سواه، تشترك فيها زوجته وأهله، وتعقبها الضحكات المجللة، في سكون الموت البارد، وحول الجسد المسجى في الأكفان!
وكان الأستاذ مدير البعثات المصرية بواشنطن مدعواً هو والسيدة حرمه إلى إحدى الحفلات، وقبيل الموعد مرضت السيدة حرمه، فأمسك بالتلفون ليعتذر عن عدم حضور الحفلة بسبب هذا الطارئ، ولكن الداعين أجابوه بأنه لا ضرورة للاعتذار، فإنه يملك أن يحضر منفرداً، وستكون هذه فرصة طيبة، ذلك أن إحدى المدعوات قد توفي زوجها فجأة قبيل الحفلة، وستكون وحيدة فيها، فمن حسن الحظ أن يكون لها رفيق!
ودخلت مرة بيت سيدة أمريكية كانت تساعدني في اللغة الإنجليزية في الفترة الأولى من وجودي في أمريكا؛ فوجدت عندها إحدى صديقاتها، وكانتا تتحدثان في موضوع لحقت أواخره، وهذه الصديقة تقول: لقد كنت حسنة الحظ، فقد كنت مؤمنة على حياته، حتى علاجه لم يكلفني إلا القليل لأنني كنت مؤمنة عليه في هيئة الصليب الأزرق، وابتسمت ضاحكة!
ثم استأذنت وخرجت، وبقيت مع ربة البيت، وأنا أحسب أن صديقتها كانت تحدثها عن كلبها –وإن كنت قد دهشت لأنها لا تبدي أي تأثر لموته!– ولكن ما راعني إلا أن تقول لي ولم أسأل: كانت تحدثني عن زوجها، لقد مات منذ ثلاثة أيام! ولما أبديت لها دهشتي أن تتحدث منذ ثلاثة أيام بمثل هذه البساطة، كان عذرها الذي لا يخالجها الشك في أنه مقنع ووجيه: إنه كان مريضاً لقد مرض أكثر من ثلاثة أشهر قبل الوفاة!
عادت بي الذاكرة إلى مشهد عميق الأثر في شعوري، وقد أثار في خاطري في حينه منذ سنوات، خاطرة لم تكتب بعنوان «مأتم الطيور»، ذلك مشهد جماعة من الفراخ كنا نربيها في دارنا، وقد وقفت متحلقة صامتة مبهورة مأخوذة، حول فرخ منها ذبيح، لقد كانت مفاجأة شعورية لكل من في البيت، مفاجأة غير منتظرة من طير تقدم في سلم الرقي كالدجاج، بل كانت صدمة لم نجرؤ بعدها منذ ذلك الحين على ذبح فرخ واحد على مرأى من جماعة الطيور!
ومنظر الغربان حين يموت لها مائت، منظر مألوف شاهده الكثيرون، وهو منظر يصعب تفسيره بغير شعور الحزن أو عاطفة القرابة! فهذه الجموع من الغربان، المحلقة الصافة، الناعقة بشتى الأصوات والأنغام، الطائرة هنا وهناك، حتى تحتمل جثمان الميت وتطير، هذا كله يشي برجفة الموت في عالم الطيور!
وقداسة الموت تكاد تكون شعوراً فطرياً، فليست البدائية الشعورية هي التي تطمسها في النفس الأمريكية؛ ولكنه جفاف الحياة من التعاطف الوجداني، وقيامها على معادلات حسابية مادية، وعلى علاقات الجسد ودوافعه، واستخفافها عمداً بكل ما يشتهر أنه من مقدسات الناس في العالم القديم، والرغبة الملحة في مخالفة ما تواضع عليه الناس هناك، وإلا فما مزية الدنيا الجديدة على ذلك العالم القديم؟
__________________________
المصدر: مجلة «الرسالة» العدد (959)، 19/ 11/ 1951م.