قال صاحبي، والحيرة تطويه وتنشره، والهم يقيمه ويقعده، بعد ما رأي مجازر بيروت ومذابح صبرا وشاتيلا، يُراق فيها الدم الإسلامي بلا حساب، وتُذبح فيها النساء، والأطفال والشيوخ بلا خوف ولا حياء، وتُهدم البيوت، وتُدَّمر المخيمات على أهلها العزل بلامبالاة، والعرب خاصة –والمسلمون عامة– في مشرقهم ومغربهم عاجزون عجز الموتى، والعالم المتحضر يتفرج على المأساة ولا يُحرَّك ساكنًا، ولا يُسكَّن متحركًا: أما رأيت؟! أما سمعت؟!
قلت: بلى، رأيتُ وسمعتُ، وعشتُ المأساة بقلب يتفطر، وأعصاب تحترق، لما رأيت من تخاذل العرب، وعجز المسلمين! وقبل ذلك غُزِيت بلاد إسلامية في عُقر دارها، ودُمرِت مدن إسلامية عريقة على أهلها، وهُدمت مساجدها، وقُتِل الراكعون الساجدون فيها، وانتُهِكت أعراض المحصنات المؤمنات، ولم نسمع ولم نر للعرب والمسلمين كلمة أو موقفًا فيه إنكار على الطغاة، أو نجدة للمستضعفين، إنما هو صمت القبور الموحشة في الليل البهيم!
فإذا سمعتَ لهم صوتًا جهيرًا ففي شتم بعضهم بعضًا، وإذا رأيتهم يومًا يتحركون بحماس وقوة، ففي قتال بعضهم بعضًا! كأنما أرادوا أن يكونوا على النقيض من أصحاب رسولهم الكريم؛ الذين كانوا (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح 29)، ليكونوا هم أشداء على أنفسهم، رحماء بعدوهم، أعزة على المؤمنين، أذلة للكافرين! وكأنما أعجبهم من صفات اليهود ما وصفهم الله به من قبل: (بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ) (الحشر 14).
قال صاحبي: ولكن أما لهذا الظلام من آخر؟ أما لهذا الليل من فجر؟ أما آن لهذه الأمة أن تعرف غايتها، وتهتدي إلى طريقها؟ أما آن لها أن تجمع كلمتها، لتقتل عدوها، بدل أن يضرب بعضها رقاب بعض؟ أما آن أن تذكر نفسها أن نسيت نفسها؟ أما آن لها أن تغسل ذل الانكسار بعز الانتصار؟ أما آن لها أن تمحو أيام الهزائم والنكسات السود، بيوم أبيض، كيوم خالد في «اليرموك»، أو سعد في «القادسية»، أو عمرو في «أجنادين»، أو طارق في «الأندلس»، أو صلاح الدين في «حطين»، أو قطز في «عين جالوت»، أو محمد الفاتح في «القسطنطينية»؟
قلت له: لا تيأس يا صاحبي، فسُنَّة الله أن يعقب الليل الغاسق بفجر صادق، وأشد ساعات الليل حلكة وسوادًا هي السويعات التي تسبق بزوغ الفجر، ولكن لله في خلقه قوانين صارمة لا تحابي، وسُننًا ثابتة لا تتبدل، ولا بد لنا أن نعيها، ونتعامل على بصيرة معها.
______________________
المصدر: كتاب «جيل النصر المنشود».