تمهلت عند خبرها برهة، راعني رغم قِصَره، أن العين تبلغ مداه بنظرة واحدة، ولكن فيه من الغناء ما نحن أحوج إليه.
كانت فتاة مباركة في يد أبيها، أو لنقل على أعتاب طور الفتيات لما وفد أبوها على النبي صلى الله عليه وسلم ومدَّ يمينه مبايعاً، وهكذا قُـدِّرَ لبُهيَّة بنت عبدالله الْبَـكْرِيَّـة(1) أن تبايع النبي صلى الله عليه وسلم مع المبايعين والمبايعات وقتذاك.
نظرت حولها فرأت المشهد الذي ترك في نفسها أثراً وحديثاً، رأت النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الرجال ويصافحهم، ويبايع النساء ولا يصافحهن، وطفقت الأيام في دورتها تدور، وجعل الزمن لا يكفّ عن الكرور، وهي ترتدي مراحل الحياة الطويلة الممتدة مرحلة في إثر مرحلة، ولكنها ارتبطت بذاك اليوم الأغرّ برباط من الود وثيق، وكثيراً ما كان يتغشى ذاكرتها في رفق، فتقول مغبوطة منتشية: فبايع النبي صلى الله عليه وسلم الرجال وصافحهم، وبايع النساء ولم يصافحهن، فنظر إليَّ فدعاني ومسح برأسي ودعا لي ولولدي، وقال من حدثته(2): فَوَلدها ستون ولداً؛ أربعون رجلاً، وعشرون امرأة، فاستشهد منهم عشرون(3).
لنقف أولاً مع كلماتها التي تنتظم شطر الخبر الأول، فكم يبدو لنا المشهد رائعاً! وقد سطعت خلفه وأمامه أشعة السلوك النبوي الشريف مُزيِّنة لنا العيش فيه ومعه، وكلما تجدد المشهد في الأذهان تجدد معه ضياؤه، وشعَّ في النفوس أثره.
إن النبي العفيف صلى الله عليه وسلم يأبى على النساء مصافحتهن، ولا ريب أنهن جميعاً كـنَّ يطمحن إلى مصافحته، ولمَ لا؟ إنه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء(4).
ولئن قال صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وكِّلَ به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة»، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: «وإياي، إلَّا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير»(5).
وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «أغرتِ؟»، قالت: وما لمثلي لا تَـغَـار على مثلك يا رسول الله؟! فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد جاءكِ شيطانكِ»، قالت رضي الله عنها: أو معي شيطان؟! قال صلى الله عليه وسلم: «ليس أحد إلا ومعه شيطان»، قالت رضي الله عنها: ومعك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم، ولكن الله أعانني عليه فأسلم»(6).
ويصح لنا أن نتساءل: هل فينا من أعانه الله عز وجل على شيطانه فأسلم؟ هل سمعنا عمن يأمره شيطانه بخير غيره صلى الله عليه وسلم؟ فلئن كان الله عز وجل أعانه على شيطانه فأسلم، ولئن كان شيطانه صلى الله عليه وسلم لا يأمره إلَّا بخير، ورغماً عن هذا وذاك لم يكن يصافح النساء، ألا يطل هنا من بين السطور والأفكار سؤال يهزنا بعنف، ويهتف فينا بقوة: ألسنا، إذاً، بعدم مصافحة النساء أولى؟! فلماذا يخرج علينا من يبيح مصافحة النساء مُدَّعياً بأن عدم مصافحتهن كانت خاصية للنبي صلى الله عليه وسلم؟!
ليلحق به سؤال آخر: ترى، لماذا تصافح زوجة غيرك، ويُــصافح غيرك زوجتك؟!
ولنقف الآن مع من حدثته، الذي ينتظم شطر الخبر الثاني، قال: فولدها ستون ولدًا -من أولادها وأحفادها- أربعون رجلاً، وعشرون امرأة، فاستشهد منهم عشرون.
من اليقين أن بهيَّة وأباها استقبلا الدعوة النبويَّة ومسحة كفه الشريف باستبشار وجذل(7)، وأنف صِغَر سنها راغم، وأغلب اليقين أن الدعوة الشريفة حوَّلت مشاعر بهيَّة من أيامها الراحلة إلى أيامها الوافدة، حيث أدركت بمشاعرها الغضَّة أن بينهما من الفارق المحسوس ما يلاحظ، وعاشت مترعة(8) الذهن؛ بمعنى أنه لا يستحق مشاعر الشكر والثناء على ما أُسدِي لها كما يستحق النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم، حيث تقبل الله عز وجل دعوته صلى الله عليه وسلم من أجلها، وألفتها واقعاً جميلاً تحياه، فولدها ستون ولداً؛ أربعون رجلاً، وعشرون امرأة.
ولئن غنمت السيدة بهيَّة بنت عبدالله الدنيا بوقوع البركة فيها وفي ولدها، وولد ولدها فقد ظفرت أيضاً بجنات ربها حيث زُفَّ من أولادها وأحفادها موكب من الشهداء يُقدر بعشرين شهيداً، ولسوف تلقى الله عز وجل يوم القيامة وجميعهم في ميزانها، ولئن كان هذا شعور السيدة بهية بنت عبدالله المفعم بالغبطة والسرور لأثر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في دنياها، ويقينها بما هو أعظم منهما في أُخراها، فلمَ لا نغتبط ونُـسرُّ بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لنا؟!
وربما لحقني سائل لاهثًاً أو هادئاً، يسأل: أو قد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لنا؟!
فأجيب وملء فمي وفؤادي غبطة وسرور: نعم، واضرب صفحاً عن كلماتي، وتأدب وأحسن الإنصات لأمك عائشة رضي الله عنها إنها تجيبك: لمَّا رأيتُ من النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم طيب نفسٍ قلتُ: يا رسولَ اللَّه، ادعُ اللَّه لي، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لعائشة ما تقدَّم من ذنبِها وما تأَخَّر، ما أسرَّتْ وما أعلنت»، فضحكت عائشةُ حتَّى سقط رأسُها في حجرها من الضَّحك، فقال لها رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: «أَيسرُّكِ دُعائي؟»، فقالت: وما لي لا يسُرُّني دُعاؤكَ؟! فقال صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: «واللَّه إِنَّها لدعَائِي لأُمَّتي في كل صلاة»(9).
وهنا عقب بعض أهل العلم قائلين: وهذه المحبّة تزداد منه صلى الله عليه وسلم كلّما ازداد العبد طاعة وخلقاً(10).
___________________________
(1) هي بهية بنت عبدالله البكرية من بكر بن وائل.
(2) ذكر الحافظ بن حجر في الإصابة (10949) أنه حبة بن شماخ.
(3) يقصد ستين ولداً من أولادها وأحفادها.
(4) حديث صحيح: أخرجه أحمد (2/ 213)، وابن سعد (1/ 8)، والخطيب البغدادي (5/ 216) في تاريخ بغداد بلفظه. (5) حديث صحيح: أخرجه مسلم (8/ 139).
(6) حديث صحيح: أخرجه مسلم (5/ 2174). (7)؛ أي: ببهجة وابتهاج.
(8) مملوءة.
(9) حديث صحيح: أخرجه البخاري (3268).
(10) الإصابة (10949)، الاستيعاب (3307)، أسد الغابة (6785).