بجسدٍ واهن وعينٍ حادة وقلبٍ جسور يُلقي يحيى عصاه في وجه المُسيّرة، في لحظة النهاية وحتى الرمق الأخير يرسم بعصاه مشهدًا كنا نقرأ عنه في الكتب ونسمع عنه في الحكايات، مشهدًا بطوليًا لمن كان له قلبٌ وبصر.
ألقى موسى عليه السلام عصاه فأبطلت سحر فرعون وجنوده، ويُلقي يحيى عصاه ليُكذب كل افتراءٍ من القاصي والداني، وليَخُطَّ على نهج المجاهدين المصلحين أن الميدان للقائد والقائد للميدان.
ألقى موسى عصاه فتحولت إلى حية تسعى وتلقف ما صنع السحرة، ليُلقَى السحرة ساجدين ويؤمنوا برب العالمين، ويُلقي يحيى عصاه ليوقظ القلوب النائمة والأمة الغائبة أن يا أهل الإسلام أليس في يدكم حتى عصا ضئيلة تغيظون بها الكفار!
سار موسى وحيدًا عندما آنس من جانب الطور نارًا، ولم يكن يعلم حينها أن عصاه التي يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه ستبطل كيد فرعون وجنوده وتُخرج قومه من الظلمات إلى النور، ويجلس يحيى وحيدًا في بيتٍ مهدم قصفته الصواريخ حين آنس أمر ربه بالخروج والجهاد، ولم يكن يعلم أن عصاه الضئيلة سيراها العالم وتبطل أكاذيب السحرة وتُثبّت قومه من بعده.
يحمل موسى عصاه بيمينه ويُدخل يده في جيبه تخرج بيضاء من غير سوء في آية من آيات الله، ويحمل يحيى عصاه بيساره بعد ما نزفت يمينه كمحاولة أخيرة للمقاومة، ويُدخل يده في جيبه فتخرج بأذكاره وأدعيته ومسبحته، فيصبح ما حمله يحيى مُعجزًا كما يد موسى، ومبطلًا لسحر السحرة وأقوى من كيد فرعون.
ضرب موسى عصاه ليشق البحر ويرسم الطريق، ويمضي لعهدٍ جديد بمعجزة إلهية بعد ثباتٍ ويقينٍ وصبر، ويضرب يحيى عصاه في وجه المُسيّرة ليشق طريق النصر والتحرير، ليقول: إن هناك أملاً بعهدٍ جديد ولكنها الإرادة والصبر!
إلقاء العصا قد يبدو مشهدًا ضئيلًا مقارنة بتاريخ السنوار الحافل، لكنه كان تتويجًا لمسيرة الرجل ودليلاً على صدق دعواه، وإصرار على غيظ العدو حتى النفس الأخير، والأخذ بالأسباب وإن كانت عصا ضئيلة وأنت تنزف النزف الأخير، إنه الإيمان الخالص والصدق والتوكل، قال تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة: 120).
عصا يحيى لم تتحول إلى حية تسعى، لكنها كانت نارًا على أعدائه رغم موته، تفضح عارهم وضعفهم وتنطق بشجاعته وصدقه، مات السنوار وانتصرت الروح على المادة، مات السنوار وانتصرت العقيدة على الكفر والطغيان، مات ثابتًا مقاتلًا حتى آخر نفس ليُثبت أن للإيمان قوة أخرى لا تعادلها قوة، قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139} إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران).
ألقِ عصاك وإن لم تكن حية تسعى.. ألقِ عصاك وإن كانت في وجه طائرة.. ألقِ عصاك وإن كنت وحدك في وجه الطغيان.. ألقِ عصاك وإن كان النفس الأخير.. وغِظ عدوك ما استطعت.. وازرع غرسك وإن كانت القيامة.