من «العبودية» إلى «الصدارة العظمى»
عانى العالم الإسلامي من انحطاط عام في كل الجوانب – تقريباً – منذ القرن الحادي عشر الهجري / السابع عشر الميلادي إلى القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، وفي أثناء تلك القرون احتل الغرب جل العالم الإسلامي، وضعف الدين في نفوس الناس، وفرحوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، ونسوا المعاني العلية إلا قليلاً، ورضوا بالدنية في دينهم ودنياهم معاً!!
ولم تسلم من بقاع العالم الإسلامي من هذا التعميم إلا القليل، وكانت تونس كأخواتها في العالم الإسلامي تئن تحت مطارق الاستبداد والجهل والفقر حتى غزاها الفرنسيون عام 1298هـ/1881م وقد كان غالب أهل تونس آنذاك أميين، وعدد السكان مليون ونصف المليون، موزعون بين المدن والريف والصحراء، حرفهم يسيرة، وتجارتهم الداخلية محدودة، والتجارة الخارجية بيد الأوروبيين الذين يستولون على المحاصيل بثمن بخس، ويعيدون تصديرها إلى تونس بعد تصنيعها بثمن مرتفع، والبدو يعيثون فساداً في البادية، والضرائب الثقيلة المفروضة على العامة يُعفى منها البدو لاعتراضهم عليها أو لاتفاقهم مع «الباي» – لقب لحاكم تونس – على استثنائهم منها مقابل خدمات لـ«الباي».
والبلاد تابعة اسمياً للسلطنة العثمانية التي كانت قد ضعفت آنذاك، بل شمل الضعف كل مناحي الحياة فيها، والموظفون في تونس غالبهم من الأتراك الذين يعملون لمصالحهم غالباً.
وأما التعليم فكان محدوداً ومعتمداً على الكُتَّاب (المكتب) وجامع الزيتونة تردى حاله، وصار ما يدرس فيه من علوم لا يعود على البلاد بكبير فائدة، وغالب المشايخ الزيتونيين ليس لهم أثر في حياة الناس.
نشأة خير الدين
في هذه الأوضاع الصعبة والأحوال الُمدْبِرة ولد خير الدين التونسي في قرية بجبال القوقاز عام 1235هـ/1820م، وهو أباظي شركسي.. وأُسر وهو صغير على إثر غارة في الحرب العثمانية الروسية، وبيع في سوق العبيد بإسطنبول، وتربى في بيت نقيب الأشراف تحسين بك، ثم اشتراه أحد سماسرة الباي أحمد باشا حاكم تونس، فانتقل إليها وعمره 17 عاماً، وأصبح مملوكاً للباشا الذي حرص على تعليمه الفنون العسكرية والسياسية والتاريخية، ووجد خير الدين عند الباشا مكتبة عظيمة، فأقبل يغترف منها قراءة وتدبراً وفهماً حتى حسنت معارفه وارتقت علومه، وعينه الباشا مشرفاً على مكتب العلوم الحربية، ثم رقاه إلى أمير لواء الخيالة سنة 1265هـ/1849م، وصار يستعمله في المهمات فأرسله عدة مرات إلى دول أوروبية (وسيأتي تفصيل هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى).
تعيينه وزيراً للبحرية
ثم عُين خير الدين وزيراً للبحرية عام 1273هـ/1857م، فقام بإصلاح ميناء حلق الوادي – وهو أهم ميناء في تونس – وأصلح الوزارة، وأصلح لباس الجيش البحري، وعقد اتفاقات مع الأوروبيين لحفظ الأراضي التونسية من استغلالهم وجشعهم.
الفساد في تونس
بلغ الفساد في تونس آنذاك حداً يصعب معه الإصلاح، وقد حاول خير الدين صنع شيء لتقليل الفساد وآثاره، وعمل على هذا في مرحلتين: المرحلة الأولى: قبل توليه رئاسة الوزراء، والمرحلة الأخرى: بعد توليه المنصب.
أما المرحلة الأولى، فقد كان إصلاحه فيها على النحو التالي:
أولاً: مقاومة الفساد المالي:
كان رئيس الوزراء هو مصطفى الخزندار الذي ولغ في الفساد إلى حد أرهق الدولة وضاعف ديونها، وكان ذلك بعلم «الباي» للأسف الذي كان متواطئاً معه أيما تواطؤ، وكان لهذا الخزندار مساعداً لا يقل عنه فساداً اسمه محمود بن عياد، وله منصب رسمي، وهو ملتزم الضرائب.. فاختلس أموال الدولة وهرب إلى فرنسا، وطلب التجنس بالجنسية الفرنسية وادعى أنه مظلوم فحصل عليها، فأرسل «الباي» خير الدين إلى فرنسا ليتابع قضية هذا السارق، فمكث ما يزيد على أربع سنوات في مقاضاته حتى استطاع أن يثبت فساده ويعود للبلاد بخمسة وعشرين مليون قرشاً تونسياً تقريباً.
ثانياً: الوقوف إلى جانب «الباي» في الصواب ومعارضته في الخطأ:
كان خير الدين مقرباً من «الباي» فحاول إصلاحه، لكن الباي لم يكن – على التحقيق – مخلصاً في إقامة بلاده على دعائم سليمة قوية، فعانى خير الدين من هذا، فأيده في إصدار الدستور المسمى بـ«عهد الأمان» على اختلال في بعض جوانبه، وأنشأ «المجلس الأكبر» الذي يشبه مجلس الشورى مكوناً من ستين عضواً، وعُين خير الدين رئيساً له.
وقد طلب منه «الباي» إنقاذ الوضع المالي في تونس، وقد تردى إلى أسوأ حال حتى أن الخزينة أفلست تماماً، ولم تجد أسرة «الباي» مالاً في الخزينة يكفي لمخصصاتها، وحُجبت الرواتب عن الموظفين والجنود، فاستجاب له، ورأس لجنة وضعها الأوروبيون من ممثلين من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا، واستطاع أن ينقذ بلاده من ورطة ضخمة بأن خفف من أطماع الأوروبيين الذين كانوا يريدون وضع تونس عملياً تحت مراقبتهم واستغلالهم بدعوى تحصيل الديون.
كما رفض خير الدين الاقتراض من الدول الأوروبية، وفضل الاقتراض الداخلي حتى لا تقع تونس فريسة للأطماع الغربية المتربصة بها خاصة الأطماع الفرنسية.
وكان خير الدين يعلم فساد «الباي» ومشاركته الفاسدين في فسادهم؛ لكنه كان يحاول تحييده وتقويمه قدر إمكانه، ولم يستطع ذلك كما سأذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ووضع خير الدين صندوقاً حديدياً في وسط ميدان في العاصمة، وجعل مفتاحه بيده، وخصصه للشكاوى.
اعتزل السياسة
ثم لما رأى خير الدين صعوبة الإصلاح فضل أن يستقيل، واعتزل السياسة سبع سنوات لكن ذلك لم يمنعه من الاستجابة لطلب «الباي» في إرساله مبعوثاً شخصياً له في بعض الدول الأوروبية، فساح فيها طويلاً، أما في داخل تونس فقد اعتزل الناس في بستانه متأملاً متفكراً، ووضع أثناء ذلك كله كتابه المعروف «أقوم المسالك في أحوال الممالك»، وسيأتي الحديث عنه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
إصلاحاته
ثم انتهت عزلته لما احتاج إليه «الباي» في تنفيذ بعض الإصلاحات المالية.
أما المرحلة الأخرى، فقد كانت عقب توليه الوزارة العظمى، وذلك سنة 1290هـ/1873م، فقد عزل «الباي» رئيس الوزراء مصطفى الخزندار عقب محاكمة كان سببها خير الدين الذي تمكن من عزله وتغريمه 25 مليون فرنك فرنسي وولي خير الدين رئاسة الوزراء، فعمل على تخفيف الفساد والضرب على يد المفسدين، وشجع على زراعة الزيتون والنخيل بإسقاط الضرائب عن الأرضي الزراعية لمدة 20عاماً، فارتفعت مساحة الأرض المزروعة إلى مليون هكتار – مليون متر مربع – بعد أن كانت ستين ألفاً يوم تسلم الحكم، وحدد ضريبة الاستيراد بخمسة في المائة فقط، وألغى الضرائب التي أثقلت كاهل الناس، وألغى الحملات العسكرية التي تهدف لجمع الضرائب من البدو الذين لا يدفعونها إلا عنوة، وقد كانت تلك الحملات تثقل خزينة الدولة بمصروفاتها.
الاهتمام بالتعليم
واهتم بالتعليم، فأنشأ المدرسة الصادقية نسبة إلى «الباي» محمد الصادق، حاكم تونس آنذاك، وأدخل فيها تعليم اللغات والعلوم الحديثة ليدرسها الطالب مع دراسة علوم الدين واللغة العربية، وأصدر قانوناً منظماً للدراسة سنة 1292هـ/1876م، وطور التعليم في جامع الزيتونة، وأنشأ المكتبة العبدلية على هيئة مشابهة للمكتبات الحديثة آنذاك لتضم ما تفرق من المخطوطات، وأنشأ مطبعة واستقدم بعض المصريين واللبنانيين للعمل فيها، وطور الصحافة، وطور نظام الأوقاف، وأنشأ له جمعية جعل على رأسها محمد بيرم الخامس العالم التونسي المعروف.
وحاول إصلاح القضاء، وأنشأ لجنة لوضع قوانين مستمدة من قانون السلطنة العثمانية والقانون المصري والقانون الأوروبي بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية.
استقالته من رئاسة الوزراء: حاول خير الدين أن يصلح ما استطاع أن تصل إليه يد الإصلاح، وتوثيق الصلة بالدولة العثمانية حتى أنه نجح في استصدار فرمان من السلطان بأن تونس ولاية عثمانية ولحاكمها سيادة داخلية لكن «الباي» (الحاكم) لم يعجبه ما قام به خير الدين من إصلاحات، إضافة إلى مراجعة أهل الفساد لـ«الباي» في شأن خير الدين، وبعض القناصل الأوروبيين أنفسهم – وأشدهم قنصل فرنسا – عملوا على الوشاية والدس لدى «الباي» ليعزل خير الدين، فأصبح «الباي» معرضاً عن خير الدين وفترت العلاقة بينهما، فرأى خير الدين أن الاستقالة أولى به، فاستقال عام 1294هـ/1877م، وعاش في قصره بعيداً عن المشاركة السياسية.
الصدارة العظمى: فلما سمع ذلك السلطان عبدالحميد – يرحمه الله تعالى – طلب من خير الدين أن يرحل إليه في إسطنبول، فلم يسمح له «الباي»، ثم العجب أن بعض قناصل أوروبا طلبوا من «الباي» أن يسمح له بالسفر – ربما ليتخلصوا منه – فسمح له، فلما اجتمع بالسلطان طلب منه أن يكون وزيراً للعدل فأبى، ثم بعد مدة عرض عليه الصدارة العظمى – رئاسة وزراء الدولة العثمانية – فوافق، وهو أعلى منصب تنفيذي في السلطنة، وكان ذلك عام 1295هـ/1878م، فقام خير الدين بما استطاع من مهام منصبه، ونجح في إجلاء الجيوش الروسية عن أراضي السلطنة، وساهم في خلع الخديو إسماعيل من ملك مصر؛ لما كان عليه من سوء في إدارة البلاد، وحاول أن يصلح النظام السياسي في السلطنة، ويجدد نظام الحكم فيها، فرأى السلطان عبدالحميد أن ذلك يقلل من صلاحياته فلم يوافق، فاضطر خير الدين للاستقالة، ولم يمض في منصبه سوى عشرة أشهر تقريباً، وعينه السلطان عضواً في مجلس الأعيان، وبقي كذلك إلى أن وافاه أجله سنة 1307هـ/1890م، يرحمه الله تعالى.
وقد وقعت الحملة الصليبية الهمجية الفرنسية لاحتلال تونس وخير الدين في إسطنبول لكنه – كما يبدو – لم يستطع فعل شيء، والدولة العثمانية كانت أضعف من أن تصد الحملة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي سنة 1388هـ/1968م نقل رفات خير الدين إلى تونس؛ ليدفن فيها.