لو عُرج بك إلى السماء، وتجولت في دروبها، ووصلت إلى سدرة المنتهى، فكنت قاب قوسين أو أدنى.. هل تعود إلى الأرض ثانية؟!
أم تتمسح حول العرش، وتطلب البقاء هناك، حيث الصفاء والنقاء، والملائكة والنور؟
وهل هذا سؤال؟! كيف نعود من هذا العالم الجميل إلى دنيا الناس؟!
إذا كنتُ أنا العبد العاصي حين لازمت واحداً من أهل المعراج أحسست هذا العالم الجميل وتمنيت ألا أعود.
ليلة في حياتي لن أنساها، تلك الليلة الجميلة التي لازمت فيها ابن الفارض (شاعر العشق الإلهي) في ديوانه، لم يغمض لي جفن حتى قرأته لمنتصفه، عشت معه “بين مُعتركِ الأحداق والمُهجِ”، شربت معه “.. على ذكر الحبيب مُدامةٌ سكِرنا بها، من قبل أن يُخلق الكرْمُ”، احتبست معه أنفاسي في توسله “ولا تجعل جوابي لن ترى”.
ثم غلبني النعاس فَبِتُّ ما بقي من الليل بين النائم واليقظان أعيش معه في عالم الأحلام، تمنيت أن تظل روحي في معراجها.
ولكن.. أشرق الصباح وبدأت دنيا الناس، وانغمست فيها.. وهكذا الحياة.
الاكتفاء بحياة المعراج وحدها على جمالها وصفائها هروب من أداء رسالة الإنسان.
والحياة وسط الناس وحدها بلا معراج عذاب وألم وشقاء.
هذه هي الثنائية العظيمة والفهم الراقي لدور الإنسان في الوجود التي جعلت النبي صلى الله علية وسلم يعود من معراجه ولا يتمسح حول العرش طلباً للبقاء، ليعود لرسالته في دنيا الناس حيث أبي جهل وأبي لهب وحمالة الحطب.
فهنا مجال الرسالة، وهنا أداء الأمانة.
هذه الثنائية هي التي جعلت موسى – الرسول – عليه السلام أعظم قدراً من الخضر في معراجه.
وجعلت سليمان – الرسول – عليه السلام أعظم قدراً ممن عنده “علم من الكتاب” في معراجه.
وهكذا أنا وأنت.
زادنا هناك.. ورسالتنا هنا.
زادنا: معراجنا، سياحة في الملكوت.. رفقة مع الملائكة.. شوق إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
ورسالتنا: هنا، في دنيا الناس.
حيث أبي جهل وأبي لهب وحمالة الحطب، قلوب كالحجارة أو أشد قسوة، وحواس مطمورة في أجسام كالقبور “وما أنت بمسمع بمن في القبور”.
وغيرهم أناس: أرق من النسيم إذا سرى، وأصفى من ماء المزن إذا جرى.. يباهي الله بهم الملائكة.
وبين هؤلاء وأولئك، الكثرة من الناس، مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ينتظرون منك الكلمة الطيبة، والابتسامة الرقيقة، واللمسة الحانية.
ينتظرون النموذج في السلوك الراقي، والصدق والأمانة، والثبات والرجولة، وقولة الحق في وجه الظالمين.
إنهم ينتظرونك أنت..
فعد إليهم يا يونس، فبرغم أنهم آذوك، وبكل نقيصة رموك، ولكن.. ههنا رسالتك، وتلك أمانتك.
فلا تذهب “مغاضباً” وتفر من أداء الرسالة، فربما بثباتك أنت وضراعتك أنت: “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”.. حتى نخرج جميعاً من ظلمة بطن الحوت.