تحدثنا في المقال السابق حول فضيلة الإيثار وأهميتها في حياة المسلم، وذكرنا صوراً رائعة ومواقف نبيلة لتجار الكويت في الماضي تدل على الإيثار وحب الخير للغير، وهذه الأخلاق العظيمة التي استمدوها من القرآن الكريم ومن توجيهات الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الأشعريِّين إذا أرملوا في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثمَّ اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسَّويَّة، فهم منِّي، وأنا منهم” (متفق عليه)، وفيه منقبة عظيمة للأشعريين من إيثارهم ومواساتهم بشهادة النبي صلى الله وسلم، وأعظم ما شرفوا به كونه أضافهم إليه بقوله “فهم منِّي، وأنا منهم”، وفيه بيانٌ جميلٌ لفضيلة الإيثَار والمواساة.
وقد ضرب أهل الكويت الكرام أروع الأمثلة في الإيثار وحب الخير للغير تطبيقاً لهذا التوجيه النبوي الكريم، وهذا ما سوف نستعرضه في ذكر بعض القصص الواقعية التي أوردها العم عبدالعزيز محمد الشايع في كتابه “أصداء الذاكرة” ص 153-155.
يقول العم عبدالعزيز الشايع هذا الموقف مع التاجر عبدالمحسن ناصر الخرافي رحمه الله، عندما عرض صاحب أحد المحلات في قيصرية التجار محله للبيع، وهو محل كبير يطل على أربعة شوارع، وبما أن عملنا (والحديث لا يزال موصولاً للعم عبدالعزيز محمد الحمود الشايع) قد توسع أصبحنا نحتاج إلى محل أكبر من المحل الذي كنا نعمل فيه، وقد عرض هذا المحل الكبير للبيع ولم نكن نعلم بذلك، إنما اقترح علينا العم عبدالمحسن ناصر الخرافي أن نشتريه لأنه رأى أنه يصلح لنا، خصوصاً وأنه يقع في موقع قريب من محلنا وأكد أنه يرغب في شرائه، ولكن تقديراً منه لحاجتنا فإنه يعطي الأولوية لنا لشرائه، وقد شكرناه على هذه الروح الأخوية، وفعلاً اشترينا المحل وحولناه إلى مكتب لنا.
وموقف آخر مع المرحوم أحمد محمد البحر حيث كان يمتلك بيتاً كبيراً قريباً من مكتبنا، وكانت مخازننا بعيدة عن قيصرية التجار في السوق المركزي، وكنا ننقل البضاعة من المخازن إلى السوق بصعوبة وتكلفة عالية، ولقد لاحظ المرحوم أحمد البحر حاجتنا إلى مخازن في المنطقة من أجل تخزين بضائعنا فيه، فقد أرسل لنا الدلال أحمد المواش رحمه الله، وهو صديق لنا وله، ليعرض علينا رغبة البحر في التنازل عن بيته لعدم حاجته إلي، وقد وافقنا على العرض وشكرناه على اهتمامه، وتم تقدير المبلغ وحولناه إلى مخزن قمنا ببنائه حسب حاجتنا، وكان من المستحيل الحصول على أي قطعة أرض في هذا الموقع لصغر المنطقة والحاجة الماسة فيها إلى مخازن، والعبرة من هذا الموضوع هي أنه كيف أظهر العم أحمد محمد البحر حرصه على مساعدتنا في الحصول على مخزن في منطقة من أصعب المناطق في الحصول على مثله فيها، وكان بإمكانه عرضه في السوق والحصول على مبلغ أكبر، إلا أن العلاقة الطيبة والإيثار هي السائدة في ذلك الوقت.
هذه بعض الأمثلة التي ذكرها لنا التاجر العم عبدالعزيز الشايع وقد عايشها بالفعل وكان طرفاً فيها، وهي بالفعل ليست حصرية ولكنها نماذج لما كان عليه التجار في ذلك الزمن الجميل، وما كان بينهم من روح محبة وتعاون وإيثار، وهذا ما نفتقده كثيراً في عصرنا الحاضر، ونتمنى العودة إلى تلك الروح الطيبة والمثالية العالية في العلاقات والتعاملات.