بعد انتهاء الحرب الباردة (1945 ـ 1991) وانهيار الاتحاد السوفيتي، ظهر على السطح مفهوم النظام الدولي أحادي القطبية، بقيادة الولايات المتحدة.
وكان من أهم مقومات هذا النظام أداة مهمة من أدواته الفاعلة في تحقيق الاستراتيجية الأمريكية، سواء على صعيد الغزو الفكري والأيديولوجي، أو الغزو الاقتصادي والعسكري، والذي يترابط مع بعضه.
هذه الأداة هي العولمة، أو ما يعرف بمفهوم “القرية الكونية”، فالعولمة بشكلها الحالي اتسعت دائرتها لتصل كل مناحي وقطاعات العالم، حيث الشركات متعددة الجنسيات، مثل ماكدونالدز وكنتاكي وغيرهما، وصولا إلى القانون الدولي، ليصبح الفرد فيه شخصا من أشخاصه.
وكذلك دبلوماسية القرن الحادي والعشرين، التي أثرت على شكل تناقل البيانات والحظر والرقابة على البيانات ونظام الأمن السيبراني والتجارة عبر “الأون لاين” والقوانين المتداخلة عالميا، وتبادل السلع والخدمات عبر المنظمات المختلفة، مثل منظمة التجارة العالمية، التي تشكل حاضنة لعملية التبادل التجاري دوليا، وجعلته يسير في فلك هذا النظام.
جاءت أزمة فيروس كورونا لتقلب الموازين في مفهوم العولمة، وتُحدث تصدعات كبيرة بعد عوامل عديدة سبقتها.
ومن أهمها مفهوم العولمة في ظل صعود البقية، أي الصين، فعلى سبيل المثال لا الحصر لتحقيق المعنى، فإن الدول والشركات الكبرى المصنعة للسيارات، لا سيما في أوروبا الغربية، توقفت عن العمل؛ لأنها تستورد سلعا محدودة وقطع غيار من الشركة الأمريكية الرئيسية لتصدير تلك القطع وهي “MTA Advanced Automotive Solutions” .
وأدى إغلاق هذه الشركة إلى توقف خطوط الإنتاج العالمي، ما يجعل الولايات المتحدة ذاتها مرجعا لاقتصاديات السوق، وهذا جزء من الاستراتيجية الأمريكية للسيطرة على السوق.
ومع توقف الملاحة الدولية إلى حد ما، قامت الدول بتخزين مواردها الطبية، للحفاظ على ما لديها في المستودعات، ما دفعها إلى التوقف عن التصدير، وهو ما مثل اهتزازا في مفهوم العولمة، إضافة إلى عوامل أخرى حققت ذلك.
وسيعزز هذا الوضع مفهوم الدولة القومية، التي تحاول الاعتماد على ذاتها في كل شيء، وهو ما ظهر في تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بأن بلاده ستعتمد على نفسها من الآن فصاعدا.
وعقّب ماكرون بهذا التصريح على وضع ومستقبل دول الاتحاد الأوروبي في ظل مفهوم تبادل المنفعة وعدم القدرة على الوفاء باحتياجات بعضها الموقعة باتفاقات.
وفي سياق مفهومي العولمة في النظام الحديث والدولة القومية في النظام القديم، كانت الشركات المصنعة في الماضي تعتمد على المخزون لتوفير احتياجاتها من السلع.
أما في هذا العصر، فقد اختلفت تلك المفاهيم في ظل انتشار العولمة، فالشركات في هذا النظام تحقق احتياجاتها وفق طلباتها بكل سهولة، وهو ما يحقق لها أرباحا أكثر.
وأثبتت الأزمة الراهنة ضعفا لدى تلك الشركات الكبرى في الحفاظ على سلعها ومواردها، وهو الذي يسوقها بشكل كبير إلى النظام القديم.
ومن خلال ذلك يمكن القياس على كافة القطاعات المتضررة من الأزمة، التي تسببت بركود اقتصادي كبير ليس من السهل التعافي منه.
** العولمة.. صعود البقية
وفي السياق ذاته، فإن “دبلوماسية الكمامات” التي انتهجتها الصين حول العالم، لا سيما في أوروبا الشرقية، جعلتها منافسا للولايات المتحدة في أوروبا، بفضل سرعة الاستجابة الصينية للاحتياجات حول العالم.
وتحقق الصين بذلك نموذجا مثاليا لصعود البقية عبر بوابة العولمة، لكن بشكل مختلف هذه المرة، فأثر النظام الشمولي يختلف اختلافا جذريا عن النظام الديمقراطي، وهو ما يجعل شكل العولمة مختلفا في طريقة تحقيقه.
حققت الصين عنصرا مهما يحمل إضعافا للولايات المتحدة، وستزيد هذه السيطرة من فرص صعود الصين، ولكن ليس للسيطرة على النظام الدولي، رغم تخوف دول رئيسية في الاتحاد الأوروبي من ذلك، وهو ما شاهدناه في تصريحات رسمية لدول، مثل صربيا والتشيك، تشكر الصين على ما قدمته من خدمات لم يقدمها الحلفاء.
كما يحتاج مفهوم السيطرة إلى إرادة سياسية لدى الدولة لتحقيقه، وهي غير متوفرة لدى الصين حتى اللحظة، بقدر ما يُفهم من استراتيجيتها “الحزام والطريق”، القائمة على الدبلوماسية الناعمة والاتساع في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، لتحقيق أكبر نفوذ اقتصادي.
صحيح أن الاستراتيجية الصينية تقوم على المنح والقروض وتحقيق نهضة تلك الدول التي تتعاون معها، بالسعي إلى السيطرة على سياساتها من وجهة نظر البعض، إلا أن هذه الاستراتيجية ليست قائمة على القوة العسكرية، ولا توجد مؤشرات على رغبة في ذلك بشكل ملحوظ.
يمكن القول إن المستقبل لا ينذر بانهيار نظام الأحادية القطبية لصالح الولايات المتحدة، بل انحساره وضعفه، وربما يحتاج ذلك وقتا.
لكنه لن يتحول إلى ثنائي القطبية متقاسما بين واشنطن وبكين، أو أحادي القطبية لصالح الصين، وبقاء قوتها، لكنه سيعزز ظهور وحدات فاعلة أخرى ذات أثر في النظام الدولي.
وسيزيد هذا الوضع من انحسار العولمة وأفولها على الأقل بشكلها الحالي، وهو ما سيضاف إلى العوامل التي تساهم في إضعاف قوة ونفوذ الولايات المتحدة مستقبلا لصالح قوى أخرى.