تابع المهتمون بالشأن التركي تصاعد التوتر بين تركيا من جهة واليونان وقبرص الرومية ومن خلفهما فرنسا ودول عديدة من جهة أخرى، كما تابعنا موقفاً حازماً لتركيا لمنع كل محاولات عزلها داخل شواطئها في شريط ضيق وفقاً للرؤية اليونانية التي تستند إلى امتلاك الجزر الصغيرة المتناثرة في بحر إيجة لحقوق مثل البر الرئيس.
إن مشكلة تركيا أنها تواجه مجموعة كبيرة من الخصوم في هذه الجبهة، فهي أمام اليونان وقبرص الرومية وفرنسا و”إسرائيل” ومصر والإمارات وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، وهي تدرك أن اللعبة متعددة الأطراف، وأنه ليس لديها حلفاء يستند إليهم في هذه المواجهة.
في غمرة هذه الأحداث، قادت فرنسا التي أزعجها دور تركيا في ليبيا حملة ضد تركيا ودعماً لليونان وحاولت استباق القمة الأوروبية لتحشيد دول جنوب أوروبا ضد تركيا لفرض عقوبات عليها كما أوصى البرلمان الأوروبي بموضوع العقوبات على تركيا.
من جهتها، وبالرغم من إظهارها للحزم وإرسالها لسفن التنقيب رغماً عن الرفض القبرصي واليوناني، مع العلم أن قبرص هي أول من أعطت عقوداً لشركات التنقيب في المنطقة، فإن تركيا أمام هذه التكتلات ضدها التي تزيد من تكتل خصومها وتضامنهم ضدها لم تكن متصلبة في التعامل مع التطورات شرق المتوسط، خاصة أن واشنطن قد دخلت على خط الأزمة بقوة، حيث شاهدنا وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في قبرص الرومية في الأيام الماضية، وقد جاء ذلك بعد رفع الحظر عن الأسلحة غير الفتاكة التي حظرت واشنطن توريدها إلى قبرص منذ حوالي 31 عاماً، فضلاً عن دخول روسيا التي زار وزير خارجيتها سيرجي لافروف أيضاً قبرص قبل زيارة بومبيو لها بخمسة أيام فقط، وهناك فرنسا ومصر و”إسرائيل” والإمارات، كما أن دول جنوب أوروبا مثل إيطاليا وإسبانيا ومالطا والبرتغال أيضاً مهتمة وقد عقدت قمتها مؤخراً بمبادرة فرنسية دفعت نحو تهديد تركيا بعقوبات.
ولهذا رأينا أن تركيا تجاوبت مع المبادرة الألمانية أكثر من مرة، وسمحت للحوار، وسحبت سفينة التنقيب مرتين، كان إحداها لمدة أسبوعين، ولكن اليونان قامت بعقد اتفاقية منطقة اقتصادية مع مصر خلال هذه الفترة، مما أدى إلى عودة تركيا لاستعراض القوة؛ حيث أبرزت قوتها من خلال مناورات عسكرية بحرية مع شمال قبرص، وبعد اجتماع دول جنوب أوروبا وقبيل زيارة بومبيو لقبرص سحبت سفينة أوروتش رئيس إلى ميناء أنطاليا، ولكنها عادت للإشارة إلى أن السفينة لم تكمل مهمتها، وأنها توجهت للميناء لدواعي الصيانة، وأن السفينة قد تعود للعمل وأن تركيا سترد بشكل مناسب على أي استفزازات.
بين الفينة والأخرى تراوح تركيا في استخدام أدوات القوة، فتارة تستخدم الأدوات الدبلوماسية، وتارة تستخدم الأدوات العسكرية، وهو نهج تعلمته من تجربتها في ليبيا وسورية، مفاده أنها لن تستطيع أن تفرض شيئاً على طاولة المفاوضات إلا إذا فرضت نفسها في الميدان.
بعد أن بدأت تركيا بالتنقيب فيما تراه مناطقها البحرية حدثت توترات من قبل اليونان، وبدأت الأوضاع تزداد سخونة، عندها بادرت ألمانيا للتوسط لإيجاد حل، قبلت تركيا لكنها عادت وأرسلت سفنها بعد تراجع اليونان، وقامت بمناورات عسكرية مع قبرص التركية بعدها تدخل “الناتو” كوسيط وتجاوبت تركيا، وأصرت على موقف حازم؛ مما حذا باتجاه الأمور نحو حوارات مباشرة بين الفنيين الأتراك واليونانيين بلغت 4 اجتماعات حتى الآن، وينتظر عقد الخامس في الأسبوع القادم.
تهدف تركيا من هذه المراوحة إلى إظهار حزمها وإلى التخفيف من الضغوط عليها في ظل تعدد الجبهات التي تقاتل عليها من ليبيا إلى سورية إلى شرق المتوسط، بالإضافة إلى الجبهة الداخلية بهمومها السياسية والاقتصادية.
ومع ذلك، لا تفضل أي دول تسير بسياسة عقلانية التوجه للحرب إلا إذا غلبت على قناعتها أن ما سيتحقق بالحرب سيفوق الطرق الأخرى، وغالباً هذا غير متوفر في عالم اليوم، وفي ظل وجود خصوم عدة، ولكن تركيا تدرك أن الجبهة المقابلة ليست موحدة، فهناك عدد من الدول الأوروبية غير راضية عن السلوك والتفرد الفرنسي، كما أن اليونان نفسها غير متأكدة من الدعم الأوروبي الكامل في ظل تصاعد الأمور مع تركيا، خاصة مع ما شاهدناه جميعاً من ضعف التضامن الأوروبي في ظل أزمة كورونا، فضلاً عن أن القرار الأوروبي لا بد أن يأتي بالإجماع في حال قررت عقوبات على تركيا.
لا تبدو إيطاليا وإسبانيا ومالطا منسجمة مع الموقف الأوروبي المتخاصم مع تركيا، حيث ترى هذه الدول أن الأفضل للاستقرار هو الحوار والتنسيق في مواجهة التهديدات المشتركة، والعمل على استقرار الدول التي يتدفق منها اللاجئون نحو أوروبا، التي تعتبر هذه الدول المتضرر الأكبر نسبياً جراءها.
أمام هذه الحالة من تعدد الجبهات وتعدد الخصوم في كل جبهة وإمكانية تضامنهم من جهة، وأمام إدراك تركيا لمواطن قوتها والجوانب التي لا يمكن أن تتساهل فيها، فهي تظهر سلوكاً متنقلاً بين التلويح بالقوة والدعوة للحوار، وهو ما قد يشبه منحنيات التصاعد لقيمة العملات، وتأمل تركيا أن تنجح مناوراتها في تحقيق مطالبها من خلال أقل التكاليف، ومع صعوبة ذلك فمن المرجح أن تستمر تركيا في هذا النسق المتنقل بين أدوار القوة حيث ثبت لها بالتجربة ضعف أدوات القوة الناعمة وحدها وعجزها في ظل هذا الواقع الخشن والصلب.